/ صفحه 197/
تبعاً لذلك فلا يدرون ما يأخذون وما يدعون. على هذا الرسم جرى الحكم بإخراج الفرزدق وجرير من حلبة الفصحاء الثقات الذين يستشهد بكلامهم في اللغة والنحو عند فريق من الأئمة. وخالفهم آخرون، وكذلك الشأن في الكميت، والطرماح، وغيرهما ممن عاصرهما، أو جاء بعدهما، كبشار، والمتنبي، والمعري، والشريف الرضي.
ولقد رأينا بعض أئمة النحو (كابن هشام في كتبه المختلفة ولا سيما المغني) يستشهد بشعر هؤلاء وأضرابهم، ويحتج ببيانهم. ولكن غيره من مخالفيه يرده، أو يدفع الشواهد بأنها مسوقة لمجرد الاستئناس لا للإحتجاج العلمي ولا الاستدلال القاطع. ولا يسكت الشعراء المجرحون على هذا بل يتهمون الرواة بالغفلة، والتقصير والهوى ـ كما سبق ـ ويرمون النحاة بالغباء، والتصنع، والجمود، والقصور. وقد يخشى النحاة هجاء الشعراء وإقذاعهم؛ فيدارون سفهاءهم؛ بالأخذ عنهم، والاحتجاج بشعرهم؛ كالذي فعله سيبويه أمام النحاة مع بشار، وكالذي فعله غيره ممن سبقوه أو خلفوه مع شعراء آخرين. وهذه هي الفوضي الغامرة، والفساد المبين.
إلى هنا انتهى التصوير الحق للمشكلة التي نشأت منذ عصر التدوين والجمع، ولم يواجهها الأئمة بما يدفع شرها عن اللغة والنحو، ويؤمن الطريق أمام الناطقين والكاتبين في العصور المستقبلة؛ فظللت نتخطى القرون قرنا فقرناً حتى دهمتنا بآثارها، ونالنا منها ما نال أسلافنا؛ فما أكثر أن يتكلم المتكلم، أو يكتب الكاتب؛ فينبري له من يخطئه، ويتهمه بالخروج على النهج العربي الأصيل، ويسوق له من الشواهد والآراء ما يؤيد دعواه، ويقوي تجريحه. وما يكاد يفرغ من الاتهام حتى يوفق المجرح للدفاع عن نفسه، بأن يجد مصوبا يشد أزره، وآراء أخرى تؤيده، وشواهد تثبت قدمه في موقفه؛ فيكر على صاحبه هاجما، مسلحا بما كشف من آراء وشواهد. ويقاومه صاحبه بالطعن فيما عرض، وبأنه مولد أو ضعيف،... أو... ويضطر الآخر لمعاودة الرد على الرد... وبين هذا وذك تضيع الحقيقة. وإن نظرة صادقة