/ صفحه 194/
الأمر عنده تحقق الغرض الذي يرمي إليه من السلامة والبصر؛ لا يبالي بعد ذلك أين وجدهما، ولا متى صادفهما؛ فلا اعتبار لعصر معين، ولا لقبيلة خاصة؛ وإنما الاعتبار كله للبلاغة وما يتصل بها. وأول شرط من شروطها ـ كما هو معلوم ـ صحة المفردات والتراكيب؛ إذاًَ لا فضل لعربي في بايدته على عربي في حضره، ولا لشاعر جاهلي على آخر إسلامي أو محدث؛ وإنما يجئ التباين من حيث الصحة، ومن حيث البراعة وتحقق البلاغة وشروطها (1).
ولابن جنبي وأضرابه رأى غير ما سبق جميعاً، إذ يرى أن الأخذ وعدمه ليس رهناً بالبدو أو الحضر؛ وإنما هو رهن بصحة اللسان وسلامته؛ فحيثما وجدا فقد صح الأخذ، وإلا فلا يصح، يتساوي في هذا أعراب البادية وسكان المدن. وعلة ذلك عنده: " ما عرض للغات الحاضرة وأهل المدر من الاختلاف والفساد والخلل. ولو علم أن أهل مدينة باقون على فصاحتهم ولم يتعرض شيء من الفساد للغتهم لوجب الأخذ عنهم كما يؤخذ عن أهل الوبر. وكذلك أيضاً لو فشا في أهل الوبر ما شاع في لغة أهل المدر من اضطراب الألسنة. وخبالها، وانتقاض عادة الفصاحة في كلامه لم نكد نعدم ما يفسد ذلك، ويقدح فيه، وينال ويغض منه. وقد كان طرا علينا من يدعي الفصاحة البدوية، ويتباعد عن الضعفة الحضرية؛ فتلقينا أكثر كلامه بالقبول له، وميزناه تمييزاً حسن في النفوس موقعه. إلى أن أنشدني يوما شعراً لنفسه، يقول في بعض قوافيه: " أشأأَها، وأدأأَها".
فجمع بين الهمزتين كما ترى. واستأنف من ذلك ما لا أصل له، ولا قياس يسوغه. نعم وأبدل إلى الهز حرفا لاحظ في الهمز له، بضد ما يجب؛ لأنه لو التقت همزتان عن وجوب صنعة للزم تغيير إحداهما. فكيف أن يقلب
ــــــــــ
(1) مناقشة هذا الرأي والحكم عليه تتضح من مناقشة نظيره الذي سنعرض له هنا قريبا.