/ صفحه 92/
ونحن في كل هذا لا ننحو إلا إلى الواقع، ولا نكتب إلا عن ضمير، ولا نروي الوقائع سماعا إنما نروى ما شاهدناه ونحلل ما خبرناه، وأنا في كل هذا أحاول أن أعرف علة تأخرنا وأسباب تفوقهم، ولا يمكن أن ننتهي إلى معرة هذه العلل والوقوف على هذه الأسباب في مقال أو اثنين.
* * *
منذ أكثر من ثلاثين سنة كنت انتهيت من دراسة كلية الهندسة بمصر وسافرت مع زوجتي لأدرس العلوم الطبيعية في الخارج، وهناك في باريس غيرت سكني خلال عشرة أعوام سبع عشرة مرة، حيث طرقت وأولادي الفنادق تارة والعائلات أخرى، كما سكنا في مساكن مفروشة وأخرى أسسناها بأنفسنا.
من ذلك ترى أننا اختلطنا بمختلف الأوساط، وأن الذي أرويه إنما أرويه عن الواقع وكنا لوجود الأولاد معنا طيلة هذه المدة نحتفظ بخادمة فرنسية، وفي حالة اضطرارنا عند عدم وجود خادمة مستديمة كنا نلجأ لخادمات يشتغلن بالساعة، وهي عادة موجودة في كل أوربا - أذكر جيدا أننا كنا ندفع أربعة قروش في الساعة الواحدة في وقت كانت الحياة في باريس أرخص منها في مصر وبغداد، وكان أجر العامل في بلادنا يبلغ هذا القدر لليوم كله لا لساعة واحدة- وفي ذات يوم مرضت هذه الخادمة التي تشتغل بالساعة، وكنا في ضاحية اسمها ((بولارين)) من ضواحي باريس، فزرناها ووجدناها تسكن فيلا صغيرة ولها غرفة للنوم بها سرير مزوّد بالمفارش البيضاء التي يغيرونها عادة كل أسبوع، ويتصل بغرفة النوم صالة للطعام نظيفة، وقد لا حظنا وجود راديو تستمع فيه هذه الخادمة إلى الموسيقى كما تتتبع الأخبار.
وإنما أعطيك صورة صادقة لأكثر من واحدة، تبدلوا علينا في كل مرة نضطر فيها لخروج الخادمة المستديمة أو في كل مرة نزور فيها بحكم الاختلاط أو المودة رجلا أو امرأة من طبقة العمال أو الخدم - السرير النظيف والطعام الذي يحتوي دائما في كل وجبة على أكثر من صنف واحد وغرفة الطعام المرتبة والراديو