/ صفحه 52/
هو لون من الحياة يكثر معه فقدان جاه الدنيا لأن الدينا لا تمنح جاهها في يسر لمن سعى لغيره أو آمن بربه أتم إيمان. الدينا تمنح جاهها في يسر لمن طلب أن يعيش لنفسه ويحفظ لذاته بقاءها فحسب. لأنه ممكن من نفسه عندئذ أن يسلك سبيل الزلفى والتودد للغير الشريك مهما كان شأنه ليأخذ منه. وهو يأخذ فقط. ولا يستطيع أن يعطي لأنه يقف في سبيل عطائه أنه قد تحدد بكفاحه من أجل ذاته وقصر هذا الكفاح على بقائه الخاص.
هو لون من الحياة إذن ملييء بالكفاح المرير، ملييء بالعقبات ملييء بالحرمان من جاه الدنيا وزخرفها. ولكن مع ذلك هو حياة أصحاب المثل والأهداف العليا. وفي مقدمة هؤلاء المؤمنون بالله حقا. ((لتبلون في أموالكم وأنفسكم ولتسمعن من الذين أوتوا الكتاب من قبلكم ومن الذين أشركوا أذىً كثيرا، وإن تصبروا وتتقوا فإن ذلك من عزم الأمور)).
فهذه الآية الكريمة تعرض لحياة المكافح لهدف وراء حفظ بقائه وتبين أن كفاحه في هذا السبيل سيعرضه حمتاً إلى الحرمان من جاه الدنيا ومن قوام ما يحرص الإنسان العادي على صيانته فيها وهو النفس والمال. ولذلك يحتاج أصحاب هذه الأهداف في كفاحهم إلى صبر وإلى قوة عزم وإرادة.
* * *
هذان اللونان من الحياة: لون الحياة الحيوانية أو الطفولة الإنسانية، ولون الحياة المثالية، قديمان في تاريخ الإنسانية قدم الإنسانية نفسها والخصومة بينهما قديمة منذ وجودهما وتعارضهما. ورسالات الأديان السماوية في غايتها وجوهرها تدفع الإنسان إلى الحياة المثالية أو حياة الرشد الإنساني. بينما انقسمت فلسفة الإنسان منذ القدم أيضا إلى اتجاهين يدفع كل اتجاه منهما إلى لون من هذين اللونين: فمدرسة الماديين أو الوجوديين تدفع إلى النوع الحيواني. ومدرسة المثاليين أو المدرسة الإنسانية تدفع إلى حياة الأهداف البعيدة وراء حفظ البقاء الفردي والنوعي.