/ صفحه 51/
كفاحه في حياته فذلك تعبير صدق كذلك. لإن الأهداف الأخرى قبله لا تتجرد تجردا كليا عن أن يكون حفظ البقاء الفردي مطلبا فيه على أي وجه. إذ السعي في خدمة الوطن أو لتحقيق الفضائل الإنسانية أو لخير الجماعة البشرية ينطوي حتى على مطلب حفظ بقاء هذه الجماعة الذي يعتبر البقاء النوعي للإنسان، كما ينطوي في قرب أو بعد على صيانة البقاء الشخصي. أما الإيمان بالله والسعي في سبيل الله خالصا وليس من أجل الجزاء الأخروي فالسعي إليه لا ينطوي على حفظ البقاء الإنساني بقاء فرديا أو نوعيا، وإن كان سيوصل حتما إليه. لإن الإيمان بالله على هذا النحو سيترجم في العمل وفق رسالة الله إلى الإنسان، ورسالة الله للإنسان هي لسموه وحفظ بقائه كإنسان لا كحيوان.
* * *
حياة حيوانية للإنسان خالية من المشقة في السعي والكفاح وخالية من النظر البعيد والتصور وراء الذات وخالية من السمو والرفعة الإنسانية وخالية من الأهداف والمثل: ما في هذه الحياة من سعي وكفاح وتصور وإدراك وتحصيل لرغبات وتحقيق لآمال لا يتجاوز ذات الإنسان ولا يتجاوز طبيعته الحيوانية ولا يتجاوز حاجته الشهوية.
هذا لون. ولون آخر من حياة الإنسان هو حياة المثل والسمو أو هو حياة الإنسان المدرِك المميَّز عن الحيوان والطفل. ولكنه لون قائم على عنف في السعي والكفاح لأنه سعي مزدوج: سعي للحرمان والبذل معا. سعي لحرمان الحيوانية في الفرد من بعض ما تطلب هذه الحيوانية فيه كثر أو قل ما تطلب. وسعي للبذل إلى الغير مع ما بالنفس المانحة من خصاصة لما بذلت أو تبذل.
هذا اللون الثاني من الحياة الإنسانية لون يكثر فيه الاصطدام مع طبيعة الإنسان نفسه أولا وهي طبيعة حفظ البقاء فيه، ثم مع طبيعة غيره الذي يشاركه الحياة. إذ ربما هذا الغير ليس مؤهلا لأن يحيا حياة زميله الأول وهي حياة صاحب المثل والأهداف البعيدة.