/ صفحه 314/
فهذه آية من الآيات التي نزلت في شأن القتال بين المؤمنين والمشركين، وقد كان المؤمنون يتحرجون من قتال المشركين في الأشهر الحرم؛ ولما حدث ما حدث في سرية عبدالله بن جحش إلى نخلة، وقتل من المشركين من قتل، وأسر منهم من أسر، تساءل الناس من مؤمنين ومشركين: أيحل القتال في الأشهر الحرم؟ كان المسلمون يتساءلون عن ذلك تحرجا وتأثما من أن يفعلوه، ويظنون أنهم بذلك يرتكبون وزرا عظيما، ويخرقون سياجا محترما مقدسا منذ عهد أبيهم إبراهيم؛ وكان المشركون يتساءلون عن ذلك تساؤل الناقد المعارض الذي يتخذ من أفعال خصمه فرصة للتشنيع عليه والإثارة من حوله: فقد ورد أن قريشا قالوا حين بلغهم أمر السرية وقتلاهم وأسراهم فيها: لقد سفك محمد الدم الحرام، وأخذ المال، وأسر الرجال، واستحل الشهر الحرام! فنزل قوله تعالى: ((يسألونك عن الشهر الحرام)) الآية: وفيها اعتراف صريح بأن قتالا تدور رحاه في الشهر الحرام كبير، وصد عن سبيل الله، وكفر به، وصد عن المسجد الحرام؛ فأقرت بذلك حرمة الأشهر الحرم، والأمكنة الحرم، واعترفت بقداستهما؛ ولكنها بينت بعد ذلك أن إخراج الناس من أوطانهم لمجرد اعتناقهم دين الحق، هو أكبر عند الله من القتال في الأشهر الحرم؛ والأمكنة الحرم، وفتنة الناس عن دينهم هي أكبر إثما من القتل عامة، لأن القتل إزهاق للنفس، وتضييع للشخص، أما الفتنة فهى إبطال للعقيدة التي تفدى بالأرواح، ولا تقدى بها الأرواح، كما بينت أن هؤلاء المشركين لا هم لهم إلا صد الناس عن دين الله، وزحزحتهم عما اعتنقوه عن عقيدة واطمئنان، ليردوهم عنه - إن استطاعوا- بكل وسيلة؛ وإذن فالمؤمنون في موقف المعتدى عليه، والمشركون في موقف المعتدى، وليس في شرعة الإنصاف والحزم أن يترك المعتدى يفعل ما يشاء، بينما يقف المعتدى عليه مكبلا مبهوتا متحرجا من أن يرد الاعتداء عن نفسه.
وانظر إلى ما عنيت به الآية الكريمة من إبراز الأثر المترتب على نجاح المشركين في فتنتهم إذا نجحوا، فإنها تقول للمؤمنين: ((ومن يرتدد منكم عن دينه فيمت وهو كافر فأولئك حبطت أعمالهم في الدنيا والآخرة، وأولئك أصحاب النار هم فيها خالدون)) فتثير بذلك كل ما في نفوس المؤمنين من اعتزاز بالدين وحرص عليه