/ صفحه 298/
باتباعه. وكذلك لم يتأثر بأي مؤثر في هذا التحديد. ولأنه يعلم طبيعة البشر حق العلم، فلا يعزب عن علمه مثقال ذرة في الأرض ولا في السماء، يكون فيما يرسمه لطريق الخير، متفقا تمام الاتفاق مع إمكانيات هذه الطبيعة، كما يكون تحديده الجزاء ملائما كل الملائمة لنفع هذه الطبيعة من فعل الخير، ونفعها أيضا من تجنب الضرر الذي نهى عنه.
أما الإنسان في فلسفته وتقنينه فهو محدد بالبيئة، ومحدود بالوراثة، وبنوع الثقافة ونوع المعرفة. فإنسان القرية غير إنسان المدينة في إدراكه للحياة وتعبيره عنها. وإنسان الأسرة الصالحة غير إنسان الأسرة التي عاشت في الانحراف أو الإجرام في تصور القيم الأخلاقية والروابط الاجتماعية. والإنسان الجاهل في تصوره واعتقاده غير المستنير في إدراكه وفي إيمانه. وإنسان المعرفة من نوع خاص غير إنسان المعرفة من نوع آخر: فالطبيب غير المهندس، وكلاهما غير صاحب الثقافة الزراعية، وجميعهم غير رجل المحاسبة. وهلم جرا…
وإذا كان محددا بهذه المصادر فهو منفعل بها، وتنعكس هي بالتالي في سلوكه، وفي تفكيره، وفي تحديده للحياة وأهدافها. هو وليد هذه العوامل الثلاثة. فما يصدر عنه في أي جانب، في التصرف والسلوك، أو التفكير والحكم، يكون تبلورا لهذه العوامل الثلاثة. وعليه: فالإنسان صاحب الفكر الفلسفي في تحديد الخير: ما هو؟ يتأثر بياته الخاصة والعامة. وكذلك الشأن في رسم الطريق لتحصيل الخير. ومن هنا نجد بين الفلاسفة تحديدات متنوعة للخير. وكثير منها يناقض بعضه بعضا. كما نجد رسمهم لطريق تحصيل الخير، لايقل اختلافا في التحديد، عن تحديدهم الخير نفسه:
نجد من بين الفلاسفة من يفهم الخير على أنه ما لاءم المصلحة الشخصية. وتبعا لذلك: الإنسان نفسه مقياس الخير. هذا الإنسان يرى الخير في تحصيل المتعة البدنية، وإن صاحبها اغتصاب لما يملكه غيره، أو ترتب على تحصيلها انتهاك حرمة عرض غيره.
وذاك الإنسان الآخر يرى أن الخير في عزلة الناس والبعد عنهم، وفي عزلة هذه الحياة عامة، والاعتكاف عن ملذاتها وعما يتنافس فيه الناس من متعها.