/ صفحه 254/
وتدور قصة القرى على أصول واحدة أو كالواحدة، فما تكاد تختلف إلا في الفروع: طارق ليل، أضناه السرى، ومسه البرد، فلا يستطيع مضيا إلى طيته، ولا قرارا على حاله، لكنه حائر، لا يعرف أين يقصد، ولا على أي وجه يأخذ، فالظلام حالك، والسكون شامل، فليس يسمع صوتا، ولا يرى حركة. لا حيلة له إذاً إلا أن يستنبح الكلاب الهامدة، فيهتدي بنباحها إلى طريق الحى ومقامه، إن يكن حي هناك.
فما هو إلا أن يفعل حتى يتجاوب النباح، ويهب النوام، ويتردد التنادى والصياح: طارق ليل، أو قدوا النار، فترتفع ألسنة اللهيب على البقاع والتلاع، لتأخذ به إلى أصحابه قصدا، وهناك يحسن القوم لقاءه، ويكرمون نزله، فيمضى كبيرهم إلى إبله فيتخير منها ناقة سمينة، لا يمنعها منه كرمها عليه، أو احتياحه إليها، فينحرها، وتنصب القدور، وتضرم النيران، فيمتليء الجر بأزيز القدور ونشيش الشواء، فإذا ليلة هانئة تحفل بالدفء وألوان الطعام.
ومستنبح قال الصدى مثل قوله حضأت له نارا لها حطب جزل(1)
فقمت إليه مسرعا فغنمته مخافة قومي أن يفوزوا به قبل
فأوسعني حمدا وأوسعته قرى و أرخص بحمد كان كاسبه الأكل(2)
وربما لا تبدأ القصة بالاستنباح، ولكن بدعوة الزوج مثلا إلى المشاركة بنصيبها في استقبال الضيف والحفاوة به، كقصة مرة بن محكان إذ يقول:
يا ربة البيت قومي غير صاغرة ضمي إليك رحال القوم والقُربُا(3)
في ليلة من جمادي ذات أندية لا يبصر الكلب من ظلمائها الطُنبُا(4)

*(هوامش)*
(1) حضأت: أوقدت.
(2) الطنب: حبل الخباء.
(3) القرب: جمع قراب، وهو الغمد، وكان الضيف إذا نزل بهم ضموا إليهم رحله، وبقى معه سلاحه خوف البيات، والشاعر هنا يذكر أن ضيفه في منعة ويطلب إلى زوجه أن تضم إليها رحله وسلاحه، فليس به حاجة إلى السلاح(الأغاني: 20: 51)
(4) الطنب: حبل الخباء.