/ صفحه 253/
هذه الفنون الثلاثة إلا للقرى أو الجود أو البخل فيها ذكر، ولها منها نصيب.
وبعض الناس ينكر على العرب أن تفخر بقرى الضيف، وتعده محمدة تستحق أن يملأ بها الفم، ويمد بها الصوت، ويسجل ذكرها في الشعر.(1) لكنهم إذ يأخذون هذا على العرب إنما يتجنون على الواقع، ويظلمون الطبيعة البشرية كما برأها الله.
فالقرى في واقع الأمر مشاركة للمضيف في ماله بغير عوض، وقلما كانت عند العربي مع ذلك عن خصب وسعة، فأكثر ما يكون طلب القرى زمن المحل، وقد يكون عن عوز شديد واحتياج ملح، فما تجود به كل نفس، ولكن الأنفس السمحة الزكية. والقرى للضيف إغاثة من لهفة، أو إنقاذ من هلاك. ثم إن الإنسان إذ يسدى إلى أحد معروفا، يرى أثره فرجا من شدة، ويسرا بعد عسر، يحس أنه إنسان حى، لحياته قيمة، وفيها للآخرين خير، فتتولاه نشوة من الغبطة والرضا والارتياح، فإن يكن مع ذلك شاعرا جاشت نفسه بالشعر، فأرسله حمدا لها، ورضا عنها، واعتزازا بأريحيتها، لأن الشعراء من أشد الناس توفر حس وقوة انفعال.
على أن افتخار العربي بالقرى على النحو الذي أثر عنه لا يضر أحدا شيئا، لأنه فيما علمنا، لا يذكر فيه اسم الضيف، ولا اسم قبيلته إلا في الهجاء كالذي صنع جرير إذ يقول من قصيدة في هجاء أعور بنى نبهان.(2)
وأعور من نبهان يعوي ودونه من الليل بابا ظلمة وستور
دعا وهو حي مثل ميت وإن يمت فهذا له بعد الممات نشور
رفعت له مشبوبة يهتدي بها يكاد سناها في السماء يطير
بل نستطيع فوق ذلك أن نقول إنه افتخار لا يخلو من نفع، لأنه إشادة بفضيلة السماحة، وثناء على الموصوفين بها، أفلا يعد هذا من الجانب الآخر ذما سالبا، أو انتقاصا صامتا لنقيصة الشح، وإغراء للموسومين بها أن يتخصلوا منها، أن ليس لهم في هذه السوق تجارة ولا بيع.
*(هوامش)*
(1) راجع ضحى الإسلام: 53، 54.
(2) ديوان جرير: 1: 119.