/ صفحه 184/
إن يقتلوك فإن قتلك لم يكن عارا عليك، ورب قتل عار(1)
إن هذا وقت المحنة والاختبار، تنكشف فيه دخائل النفوس الوفية والغادرة، فبينما يأسف من أعماق وجدانه دائم الإخلاص، ينقلب على عقبيه من يدير القلاع للرياح حسب جوه الذي يهب فيه الريح، ذلك هو الفرزدق الذي سلف أن كال ليزيد المدائح الغر أيام سلطانه يثور مع الثائرين بعد الفتك به، ويحطب في حبلهم، وينهش معهم في عرضه، وينبش عن تلمس مثالبه، متناسيا ما سجله على نفسه معه بالأمس، إنها الأخلاق والنحائز - والناس أجناس - فينطلق في هجائه بالقصائد الفاضحة المخزية.
ويمعن في الزراية به، فيصور التمثيل به بعد إزهاق روحه تصويرا يندى له جبين كل ذي روح حية، وسأجتزيء ببعض قليل مما قاله، تحاشيا من طول المقال، فمن ذلك قوله:
لقد عجبت من الأزدي جاء به يقوده للمنايا حين مغرور
حتى رآه عباد الله في دقل منكسا وهو مقرون بخنزير(2)
وقوله:
فلولا الذي لا خير في النسا بعده به قتل الله الذي كان غيرا
به دمر الله المزون ومن سعى إليهم كما كان الفراعين دمرا(3)
وجرى في حلبته جرير شامتا فقال:
آل المهلب جد الله دابرهم أمسوا رمادا فلا أصل ولا طرف
تهوى بذي العقر أقحافا جماجمها كأنها الحنظل الخطبان ينتقف

*(هوامش)*
(1) الأبيات في خزانة الأدب، الشاهد الثامن والتسعين بعد السبعمائة. وفيه تفصيل الموقعة والمصادر للأبيات وقصيدتها.
(2) حين: هلاك، ودقل: سهم السفينة، مقرون بخنزير: لما صلبوا يزيد علقوا معه خنزيرا وزقاقية خمر وسمكة. أما الخنزير فنظيره، وأما الخمر فشرابه، وأما السمكة فلأنه أزدى ملاح.
(3) الذي لا خير بعده: يزيد بن عبدالملك، والمقتول الذي غير: يزيد بن المهلب، والمزون: عمان موطنهم الأصلي، والفراعين جمع فرعون ملوك مصر القدماء.