/ صفحه 17/
والشرك بالله على هذا، غير انكار الربوبية والألوهية، الذي يرجع إلى إنكار مبدأ هذه السلطة على الإطلاق، وبعبارة أخرى، إنكار أن تكون سلطة غيبية وراء هذه المادة، لها تصرف واتصال تدبيري بهذا العالم. ومقتضى هذا الإنكار المطلق: اعتقاد أن هذا الكون قديم بعناصره الأولى، وأن مركباته وسيره ونموه، تحصل بتفاعل هذه العناصر، وبما فيها من القوى الطبيعية التي لا علم لها، ولا حكمة لها، ولا هدف لها، ومقتضاه أيضا أن العالم لا يصل ألى العدم المطلق، وأنما يتقلب في التحلل والالتئام، والاجتماع والافتراق، والارتفاع والانخفاض، من الأزل إلى الأبد بقواه المكتومة. دون أن يكون له مدبر حكيم، مهيمن خبير، له السلطان المطلق في أيجاده، وفي إبقائه، وفي إفنائه.
الشرك الذي اهتم القرآن وجميع الأنبياء بمحاربته:
وإذا كان الشرك بالله على المعنى الأول الذي يقتضي الاعتراف بمبدأ السلطة الغيبية محرماً وأول المحرمات، وأكبر الكبائر؛ كان الشرك بالمعنى الثاني أشد تحريماً، وأكبر جرماً وأعظم كفرا. والقرآن في أكثر آيات التوحيد والإيمان لم يعرض لهذا النوع الثاني لأن جحود الربوبية جحوداً مطلقاً، ليس من فطرة الإنسان، ولا مما يساعده في البقاء عليه شيء في الكون. ولذلك كثيرا ما يحكي القرآن عن المشركين اعترافهم بالربوبية، مبدأ السلطة الغيبية: ((ولئن سألتهم من خلق السموات والأرض ليقولن الله))((فإذا ركبوا في الفلك دعوا الله مخلصين له الدين)) ((وإذا مس الناس ضر دعوا ربهم منيبين إليه، ثم إذا أذاقهم منه رحمة إذا فريق منهم بربهم يشركون)).
وعلى هذا كانت دعوة الرسل موجهة إلى عبادة الله وحده، وإلى محاربة الذين أشركوا معه غيره فيما هو من خصائص الألوهية. وقد اتخذ القرآن في أكثر آياته التي وجه بها دعوة التوحيد إيمان القوم بالربوبية سبيلا إلى إلزامهم بالألوهية ((يأيها الناس اعبدوا ربكم الذي خلقكم والذين من قبلكم لعلكم تتقون)) ((يأيها الناس اتقوا ربكم الذي خلقكم من نفس واحدة)).