/ صفحه 75/
وأرانى قد أطلت في هذا النوع مع أن مقابله مما يتطلب حديثاً عنه مختصراً حتى ينتهى المقال الذي عرض للمناسبة لنعود ان شاء الله تعالى لموضوعنا.
النوع الرابع: طيب الاصل خبيث الفرع، وهذاالنوع يحزن الحديث عنه بما جرّه من الشر الوبيل على أصله، وأخلف الامال المترقبة منه، وأضاع تليداً من المكارم بانحطاطه وتنكبه الجادة التي سلكها سلفه العظيم، ولئن كان النوع الثانى; خبيث الاصل والفرع; ملوماً ان هذا النوع ألوم، اذ كانت الاسباب له مهيأة، ومقاليد السعادة ماثلة في يديه، فقد غمص نسبه العريق وغمطه، حتى كأن لم يغن بالامس.
ان خمول الفرع ينقض البناء العالى المكين بل يعفى آثاره ويزيل معالمه، وأمثلته
ــــــــــ
1- راجع ج 3 ص 397 طبع الشروح.

حولنا مالئة البقاع والاصقاع، وفيما مضى منذ كان الوجود والمجتمعات، وسأذكر مثالا فيه عبرة لاولى الالباب.
يروى التاريخ أن أحمد بن أبى دواد الايادى بلغ قمة المجد، اذ صار قاضى القضاة في عهد المعتصم بالله، ورجل المشورة في الدولة، ذو الرأى المسموع فيها.
قال ابن خلكان: ((و قال لازون بن اسماعيل: ما رأيت أحداً قط أطوع لاحد من المعتصم بالله لابن أبى دواد، وكان يسأل الشىء اليسير فيمتنع منه، ثم يدخل ابن أبى دواد فيكلمه في أهله وفي أهل الثغور وفي الحرمين وفي أقاصى أهل المشرق و المغرب، فيجيبه الى كل ما يريد، ولقد كلمه يوماً في مقدار ألف ألف درهم ليحفر بها نهراً في أقاصى خراسان، فقال له: وما علىّ من هذا النهر؟ فقال: يا أميرالمؤمنين ان الله تعالى يسألك عن النظر في أمر أقصى رعيتك كما يسألك عن النظر في أمر أدناها، ولم يزل يرفق به حتى أطلقها.(1)
كانت له مواقف خالدة، ولو تحدثنا فيها لا متدّ المقال وما نفى بها، وما انفك مرموق المنزلة مرفوع الجانب طيلة خلافة المعتصم بالله، وابنه هرون الواثق بالله، حتى أصيب بالفالج في أول خلافة المتوكل على الله فلم يجد الخليفة بدا من مكافأته على ما قدم من صنائع للخلافة العباسية، لتخف عنه ويلات الكارثة المفاجئة. فاستخلف محمداً ابنه في منصبه، لكن ابنه كان مضعوفاً قصر عن شأو أبيه وتخلف عنه، فأذهلت المفارقة بينهما الناس، فكلاهما بلغ الغاية في العمل على شاكلته، ولذا قال ابراهيم بن العباس الصولى فيه:
عفّت مساو تبدت منك واضحة * * * على محاسن أبقاها أبوك لكا
فقد تقدمت ابناء الكرام به * * * كما تقدم آباء اللئام بكا
قال ابن خلكان: ((و لعمرى لقد بلغ الغاية في طرفي المدح والذم، وهو معنى بديع)).(2)
ولقد خطر على بالى لهذه المناسبة مقاولة جرت مع المرحوم الشيخ المهدى العباسى شيخ الازهر فانه لما تولى مشيخة الازهر الشريف وتلألأ نجمه وملا الاسماع ذكره حقد عليه كبار معاصريه. والمعاصرة ممضة مقصية بني الانداد، موهنة حبل الوداد، اذا خدم أحدهم الزمان وفرقت بينهم في المناصب الايام، فكان العلماء يتهامسون فيما بينهم مشدوهين بحكم القدر، والعجب من رياسته عليهم مع أن جده
ــــــــــ
1- وفيات الاعيان (ابن أبى دواد).
2- وفيات الاعيان (ابن أبى دواد)

الادنى أو الاعلى كان من مياسير اليهود في مصر، وفاتهم أن الشيخ تبوأ الصدارة بكفاءته الممتازة، وسمو شخصيته الفذة، (و لا تزر وازرة وزر أخرى).
حكى لنا بعض مشايخنا ملاحاة هادئة عرّض فيها بعض مناهضيه به فعرض هو به أيضاً بما استخذى بعهد وبهت.
التعريض بين الشيخين.
روى لنا ذات يوم شيخنا أن المصادفات - جمعت بين الشيخ المهدى وبين الشيخ العروسى أو الببلاوى - والشك من الراوى على أنهما معاً شريفان يمتان بصلة النسب العالى - في زيارة الضريح الحسينى، فبينما كانا بجوار المقصورة استلفت الشريف نظر المهدى وأشار بيده الى المقصورة ثم تمثل بقول الفرزدق.