/ صفحه 44/
بل انظر إلى أيام المسلمين الأولى أيام كانوا قليلاً وكان المخالفون لهم كثيراً فقد كانوا كالشامة في الثور الأسود وكانوا يخافون أن يتخطفهم الناس من حولهم فاتجهت قوة المقاومة فيهم إلى الخارج ولم يكن لهم عدو من أنفسهم بل كانوا وحدة يرمون عن قوس واحدة ويشعرون بالتعاون وأن كلا عون لصاحبه وأنه لولا تعاطفهم وتساندهم لكانوا أكلة الآكل ونهزة المنتهز، في ذلك الوقت والشمل جميع، بل يلبسهم الله شيعاً ولم يفرقهم أحزابا ولم يقطعهم مزقا بل كانوا كالجسد الواحد إنْ حادث ألم بعضو منه تألم له الجميع.
فلما عاش المسلمون أحقاباً طوالا من الزمن وكأن لا ساكن للأرض سواهم تنافسوا فيما بينهم فانصرفت قوة المقاومة التي خلقها الله في الكائن الحى إلى الداخل إذ لا منصرف لها في الخارج فأصبحوا يتعاملون وكأنهم وحدات مختلفة لا أمة واحدة.
تركوا الخلاف يشجر بينهم، وأعانوا هم على حدته وانصرف كل إلى تقويته: العالم بعلمه وجداله، وذو السلطان بقوته وسلطانه.
وإنك لتقرأ كتب علماء المسلمين: المتقدمين منهم والمتأخرين، فتجد ما كتب في الرد على الفرق المختلفة من المسلمين أكثر مما كتب في الرد على اليهود والنصارى والصابئة والمجوس والملل المختلفة، حتى كأن الأرض كانت خالية منهم.
وإن المرء إذا أراد ن يطلع على مجادلة المسلمين لأصحاب الأديان المختلفة ليعرف الروح الجدلية في هذ التاريخ الطويل لا يكاد يجد إلا القليل بجانب ما يراه من السيل الدافق من كتب المناظرة بين الفرق الإسلامية يجسد بعض الرسائل القصيرة للجاحظ في الرد على النصارى وبعض فقرات قصر تنسب إلى المأمون في كتب الأدب كالبيان والتبيين ويجد رسالة تنسب إلى بعض علماء المسلمين والرد عليها من بعض علماء النصارى.
ولا أظن إلا أن الرسالة الأولى موضوعة لضعفها، وضت لتبين ضعف حجج المسلمين وقوة حجج النصارى.