/ صفحه 194/
يحب حبيبته ميتة، وإنه يودها في خاطر القبر سراً، كي يهرب منها العذول، ويجئ هو يبلل خديها ـ كالدود طبعاً ـ من أدمعه ثم ينزع فؤادها من جنبيها ويخبئه في أضلعه، إن هذا السخف الذي لا يقف عند حد يظفر من الناقد الدقيق بهذه العبارة: " وقد أجاد كل الاجادة ".
وقد كان هذا ـ إلى أسباب أخر ـ السر في غرور هؤلاء الشادين وكبريائهم، فما يكاد أحدهم يشدو شيئا من الأدب، وينظم أبياتاً من الشعر حتى يصبح عند نفسه شاعر عصره ـ كما قلت آنفا ـ ورحم الله شوقياً، فقد فتح لنا بابا يصعب إغلاقه حين قال:
أنا إن عجزت فإن في بردي أشعر من جرير
فكم في شعرائنا ـ الان ـ من هو عند نفسه أشعر من جرير ومن الفرزدق ومن الأخطل، ومن الثلاثة مجتمعين !.
ولقد كان المنطق السليم أن يفتخر الشعراء بشيء غير هذا الشعر الذي كسدت سوقه وأصبح لا يشبع من جوع، ولا يروى من ظمأ، فعندهم التطلع للمجد، وعندهم الحيوية، وما كان أجدرهم أن يحفظوا فخر ابن العشرين طرفة بن العبد.
وليس أدل على تأصل هذا الخلق فيهم من أن أحدهم نظم قصيدة طويلة في مدح عظيم من العظماء، فلما أراد أن يضع لها عنوانا أبى غروره ألا أن يعنونها بهذا العنوان: " (أنا الشاعر الوادي وعزاف اللظى) ويجرنا عزاف للظى هذا إلى أن نقول قولا في الاسلوب الذي يؤثره هؤلاء ممن يجعلون أنفسهم أشعر من شوقي وإنه لمن المؤلم أن ترى أسلوب الكثير منهم ضعيفاً، وقافيتهم نابية، واستعاراتهم تكاد تقطر ظرفا، من أمثال، قبلة مرنحة الاعطاف، ودلال شرود، وصمت حريري، وجسم طازج، وشحوب يؤكل، وإننا لنكتفي هنا بإيراد كلمة للرافعي عليه سحائب الرحمة، وإن كان أراد بها من هم أرسخ في الشعر من هؤلاء الذين نتحدث عنهم، ونسميهم: " ساقة (1) الشعراء " قال الرافعي: " وما التراكيب
ــــــــــ
(1) ساقة الجيش مؤخرته، وساقة الشعراء لقب كان يطلق على جماعة من متأخري الشعراء منهم ابن هرمة وابن ميادة وحكم الخضري.