/ صفحه 191/
قالوا انقضى الشعر بعد الشاعرين ولم يأنس بغيرهما ميدانه الخالي
ولست وحدي له في مصر بعدهما فمصر ملأى بأشباهي وأمثالي
ومات مطران، فازداد ميدان الشعر خلوا، ولا زلنا ـ بالرغم من صيحة الكاشف ـ نرى الميدان خاليا، ممن يسد فراغ واحد من هؤلاء الثالثة، والحقيقة أنه لا ينقصا الشعر، وإنما ينقصنا الشعراء، أعني أن عندنا شعراً رائعاً، ولكن ليس عندنا من واتته ظروفه وطبعه لأن يكون شاعراً فحلا، ولست أشك في أنه كان يمكن لبعض النابهين من شعرائنا أن يكون شاعراً كبيراً لو أخلص لفنه، وغذى بيانه، وصقل خياله بإطالة النظر في مأثور العرب من شعر ونثر، وأخذ نفسه بالقراءة والدرس، وشعره بالتهذيب والتجويد، ولكن الواحد منهم يكون فيه استعداد لأن يكون شاعراً ولكنه يتنكب الجادة ويمضى على غير الطريق، فهذا شاعر في قلبه نبع من الشعر ولكنه مغرم بالترانيم والتهاويل يزين بها شعره، ولئن كان يسمح لشاعر كأبي تمام هذا التلاعب الصناعي بالشعر ـ مع ما أدى إليه من سخف في أحيان كثيرة ـ لأن معناه يستطيع أن يتغلب على بهرجة لفظه، لقوة المعنى وعمقه إذا كان يغتفر لأبي تمام هذا، فإنه لا يغتفر لشاعر ناشئ يدور في دائرة ضيقة من الألفاظ، وتستطيع أن تقول ـ دون أن تستهدف لخطر المبالغة ـ إن عنده ثلاثين لفظه يستعملها في الغزل كما يستعملها في المديح، كما تجدها في وصف (ثور) مثلا، وقد لا حظت ملاحظة يسيرة في أحد دواوين هذا الشاعر، تؤيد ضيق ثروته في الألفاظ، بل وفى المعاني، وجدت له عشرين قصيدة كلها بدئت بما يدور حول الغناء والنشيد، فهذه قصيدة مطلعها (شدى المزاهر في القلوب ورتلي) وثانية مطلعها (شاديك من قصب الفرادس نايه) وثالثة مطلعها (دع لحنك الشادي بلا تعزيف) وهكذا. ولقد عددت له في قصيدة واحدة الزهر وما إليه ثلاثين مرة، وإذا كان هذا الشاعر أدار شعره حول ألفاظ خاصة، فإن كثيرا من شعرائنا المحدثين داروا حول معان مخصوصة جودوها بكثرة المران، فإذا تجاوزوها أسفوا ونزلوا.