/ صفحه 19/
هذا مع كونهم يستبعدون على بشر أن يؤتيه الله الوحى والنبوة، ويعتقدون الشبهة القديمة القائلة: ((ما هذا إلا بشر مثلكم يأكل مما تأكلون منه، ويشرب مما تشربون، ولئن أطعتم بشراً مثلكم إنكم إذن لخاسرون)) فهم متناقضون في تقدير قيمة البشر، تارة يرفعون أنفسهم إلى درجة يطلبون معها أن تُنزَّل عليهم الملائكة أو يروْا ربهم، وتارة يقررون أن البشر أقل من أن يوحى إليهم ويَتَلَّقوْا عن الله بواسطة الملك، وإنما جاء تناقضهم من أنهم عابثون مستهزئون مصرون على الإنكار غير عابئين بما يقعون فيه من خلط، وقد بينت السورة في هذه الآيات أن الله تعالى لو قضت حكمته بإجابتهم إلى ما يطلبون من إنزال ملك مع الرسول، أو جعله الرسول ملكا، لما أنزله إلا في صورة رجل لما ذُكر من عدم الاستعداد البشرى لرؤية الملك على هيئته، وحينئذ يلتبس عليهم الأمر فيظنونه بشرا، ولا يزالون يكررون طلب إرساله ملكا.
أسلوب السورة مع المنكرين تلقيني إنذارى:
إن هذا الموقف الذي يقفونه من الرسالة يستدعى ألا يناقشوا أو يجادلوا، لأن النقاش والجدال مع المعاندين إنما هو جهد ضائع، وعبث في غير طائل ـ تعالى الله عن ذلك علواً كبيراً ـ ولهذا تجمل السورة دليل الوحى والرسالة هذا الإجمال الذي تحدثنا عنه، وتسير معهم سيرة الإنذار والتوعد، وتُلقِّن الرسولَ ما يقوله لهم مرة بعد مرة بلفظ: ((قل))، ولا تتركه يسترسل معهم في حجاج، أو يستمع إليهم في اقتراح أو اشتراط، أو يحزن لما يقولونه عنه وعن دعوته، أو لما يؤذونه به، أو يترقب من الله أن ينزل عليهم الآيات المؤيدة له، أو أن يعجل لهم ما يستعجلون من العذاب، تلتزم السورة في كثير من آياتها هذا الأسلوب أسلوب أمر الرسول بلفظ: ((قل)) حسما للأمر، وتلقينا للرسول ما يجب أن يقول: ((قل سيروا في الأرض ثم انظروا كيف كان عاقبة المكذبين، قل لمن ما في السموات والأرض، قل لله)). ((قل أغير الله اتخذ ولياً فاطر السموات والأرض وهو يطعم ولا يطعم، قل إنى أمرت أن أكون أوّل من أسلم ولا تكونن من المشركين، قل إنى أخاف إن عصيت ربى عذاب يوم عظيم)).