/ صفحه 18/
أجملت سورة ((الأنعام)) هذه الحقائق في صدر الآية التي تلوناها، وكان هذا الإجمال أسلوباً مقصودا لم يأت عفوا، وذلك لأن السورة قامت على أساس أنهم قوم جاحدون، لا تجدى معهم الآيات، ولا تنفع في إقناعهم الدلائل، فالله سبحانه وتعالى يقول في أوائلها: ((وما تأتيهم من آية من آيات ربهم إلا كانوا عنها معرضين، فقد كذبوا بالحقّ لما جاءهم فسوف يأتيهم أنباء ما كانوا به يستهزئون، ألم يروا كم أهلكنا قبلهم من قرن مكناهم في الأرض ما لم نمكن لكم وأرسلنا السماء عليهم مدراراً وجعلنا الأنهار تجرى من تحتهم فأهلكناهم بذنوبهم وأنشأنا من بعدهم قرنا آخرين، ولو نزلنا عليك كتابا في قرطاس فلمسوه بأيديهم لقال الذين كفروا إن هذا إلا سحر مبين، وقالوا لولا أنزل عليه ملك، ولو أنزلنا ملكا لقضى الأمر ثم لا ينظرون، ولو جعلناه ملكا لجعلناه رجلا وللبسنا عليهم ما يلبسون)).
فالسورة إذن أمام قوم يرفضون الدلائل في إصرار، ويتَحدون في استكبار ولا يعبأون بما أصاب القرون من قبلهم، ويطلبون ما لا يمكن أن يكون، بينما ينكرون ما هو ممكن وما هو حاصل فعلا، يطلبون أن ينزل الله على رسوله ملكا يؤيده وينذر معه، بل يطلبون ـ كما في آيات أخرى ـ أن ينزل عليهم الملك لا أن ينزل مع الرسول فحسب، بل وصل بهم الأمر إلى أن طلبوا رؤية الرب جل وعلا، وفي سورة الفرقان تسجيل هذين المطلبين عليهم حيث تقول: وقال الذين لا يرجون لقاءنا لولا أنزل علينا الملائكة أو نرى ربنا، لقد استكبروا في أنفسهم وعتوْا عتوا كبيراً)).
وهم في هذا متعنتون مستهزئون، لأن الملائكة إذا نزلت كان في نزولها نهايتهم وهلاكهم، لأنهم لا يطيقون هذه الرؤية ولا يتحملونها بمقتضى تكوينهم البشرى، ولهذا تقول سورة الأنعام: ((ولو أنزلنا ملكا لقضى الأمر ثم لا ينظرون)) وتقول سورة الفرقان: ((يوم يرون الملائكة لا بشرى يومئذ للمجرمين ويقولون حجراً محجورا)).