/ صحفة 81 /
وكان بجانب هؤلاء قوم يؤثرون الحديث، ويسخرون من طرائق العرب القدماء في أشعارهم، وكان من أبرز من ندب نفسه لهذا التجريح أبو نواس، وأمره مشهور، والصولى وقد ظهر تعصبه للشعر الحديث في كتابه عن أبي تمام.
ويبدو أن هذه الخصومة كانت قوية متشعبة، وأنها كانت حديث الأدباء والنقاد، ولذلك نجد أثرهما بارزاً في مؤلفات القرن الثالث، ونج بعض كبار الكتاب يعالجون هذه الخصومة بالحكمة والانصاف، وأول من رأينا له قولا معتدلا في ذلك هو أبو عثمان الجاحظ، ذلك أنه عرض في كتاب الحيوان لأبي نواس، وامتدحه بجودة السبك، وجودة الطبع، والحذق في الصنعة ثم قال: (وان تأملت شعره فضلته، الا أن تعترض عليك فيه العصبية، أو ترى أن أهل البدو أبداً أشعر، وأن المولدين لا يقاربونهم في شيء، فان اعترض هذا الباب عليك، فانك لا تبصر الحق من الباطل ما دمت مغلوبا)(1).
وكان ـ و لا شك ـ لصيحة الجاحظ هذه أثرها وصداها في أوساط العلماء والنقاد، فنجد بعد قليل ابن قتيبة يردد هذه النظرية، ويعلل ويدقق، ويتبسط بعض الشيء في شرحها، وذلك حيث يقول في مقدمة كتابه (الشعر والشعراء): (ولم أقصد فيما ذكرته من شعر كل شاعر مختاراً له سبيل من قلد واستحسن باستحسان غيره، ولا نظرت إلى المتقدم منهم بعين الجلالة لتقدمه، ولا المتأخر منهم بعين الاحتقار لتأخره، بل نظرت بعين العدل إلى الفريقين، وأعطيت كلا حقه، ووفرت عليه حظه، فاني رأيت من علمائنا من يستجيد الشعر السخيف لتقدم قائله، ويضعه موضع متخيره، ويرذل الشعر الرصين، ولا عيب له عنده الا أنه قيل في زمانه، ورأي قائله)(2). ثم يمضى ابن قتيبة في الاحتجاج لرأيه، فيرى ـ بحق ـ أن الله لم يقصر الشعر ولا العلم على زمن دون زمن، وأن كل قديم
ــــــــــ
(1) الحيوان ج 2 ص 27. ط هرون.
(2) الشعر والشعراء ص 7. ط السقا.