/ صحفة 82 /
كان محدثا في عصره، وهو لذلك يروى كل حسن، ويطرح كل ردىء دون نظر إلى من أتى به.
فماذا كان موقف المبرد من هؤلاء؟ كان المبرد نحويا لغويا، وهؤلاء يعنون بالقديم، لأنهم يعتمدون عليه في الشاهد والمثل، وكان المبرد بصريا وذوق البصريين يميل إلى الجزالة والرصانة والقوة، فكان طبعياً أن يميل المبرد نحو أصحابه فيحذو حذوهم ويتعصب للقديم، ولكن الرجل كان أديباً ظريفا، وكان يجالس الجاحظ ويلقى ابن قتيبة، فقد جمعتهما بغداد وهما متقاربان في السن، وكان ابن قتيبة يقرىء كتبه ببغداد قبل وفاته، على أنهما اجتمعا في الأخذ عن أبي حاتم السجستاني، فغريب جداً أن يكون المبرد ترسم خطى الجاحظ، وسلك مسلك ابن قتيبة، وهذا الذي كان، فانا نجد أبا العباس في مقدمة كتابه (الكامل) وهي مقدمة موجزة جداً، لم يصرح بالتحيز لأحد، وإنّما نيته أن يختار ما يقع في حفظه (من خطبة شريفة، ورسالة بليغة) فليس يعينه حينئذ، لأي خطيب اختار، ولا عن أي كاتب أخذ، وإنّما الذي يعنيه أن تكون الخطبة شريفة، والرسالة بليغة، ثم يصرح عن رأيه بعد قليل من ابتداء الكتاب، فنراه وهو يتحدث عن الفرزدق مقارنا بين شعر له سخيف، وآخر جيد رصين، وقد علمت أنهم كانوا يعدون الفرزدق وطبقته من المحدثين، ولهذا يقول عقب هذه المقارنة: (وليس لقدم عهد يفضل القائل، ولا لحدثان عهد يهتضم المصيب، ولكن يعطى كل ما يستحق، ألا ترى كيف يفضل قول عمارة على قرب عهده:
تبحثتم سخطى فغير بحثكم نخيلة نفس كان نصحا ضميرها
وان يلبث التخشين نفسا كريمة عريكتها أن يستمر مريرها
وما النفس الا نطفة بقرارة إذا لم تكدر كان صفواً غديرها
فهذا كلام واضح، وقول عذب)(1).
ولكن إلى أي مدى طبق المبرد هذه النظرية، أن أول ما تلاحظه في هذا
ــــــــــ
(1) الكامل ج 1 ص 18.