/ صحفة 80 /
فتأخذ من القديم وتأخذ من الحديث على اختلاف في درجة الأخذ حسب الاختلاف في الانصاف والذوق، وهذا هو الذي كان في أدبنا العربي منذ بدأ العلماء والشعراء يتحدثون في تاريخه ونقده، فكان من الرواة واللغويين من ينظر إلى القديم بعين الاجلال والتقديس، يدافع عنه، ويناضل دونه، ويركب الشطط في الاحتجاج لما عساه يكون على غير المنهج منه، وفي الوقت ذاته يعرضون عن الجديد اعراضاً تاماً، حتى ليظهر أثر التشيع للقديم في كل أقوالهم، وفي سلوكهم عند المدارسة أو الاختيار، وحتى ليركبون في ذلك ما لا يقره منطق ولا عقل: سئل أبو عمرو بن العلاء عن الأخطل فقال: (لو أدرك يوما واحداً من الجاهلية ما قدمت عليه أحداً) وهذا كلام بالغ في الغرابة، بل مجاوز حد المعقول. ويرى الفرزدق وجريراً وأشباههما يحبرون القوافى، ويجيدون القول، فيعجبه شعرهم، ولكن تعصبه للقديم يحول بينه وبين الانصاف، فيقول (لقد كثر هذا المحدث وحسن حتى لقد هممت بروايته) ربما كان لهؤلاء الرواة بعض العذر في تفضيلهم القديم على المحدث (فمن الثابت لدى معظم النقاد أن خير أشعار الشعوب هو ما قالته أيام بدواتها الأولى، وفي تاريخ الادب العربي ما يزيد من رجحان كفة قديم الشعر على حديثه، وهو صدور القديم عن طبع وحياة، وصدور أغلب الحديث عن تقليد وفن)(1)، ولكن هذا لا ينهض عذرا لهذا التعصب الزائد الذي لا يتورع معه صاحبه أن يتنكر لحسه وذوقه، روى الصولي في أخبار أبي تمام عن رجل اسمه أبو عمرو بن أبي الحسن الطوسي أنه قال: (وجه بي أبي إلى ابن الاعرابي لأقرأ عليه أشعارا، وكنت معجبا بشعر أبي تمام فقرأت عليه من أشعار هذيل، ثم قرأت أرجورة أبى تمام على أنها لبعض شعراء هذيل:
وعاذل عذلته في عذله فظن أنى جاهل من جهله
حتى أتممتها فقال: أكتب لي هذه، فكتبتها له، ثم قلت: أحسنة هي؟ قال: ما سمعت بأحسن منها، قلت انها لأبى تمام، فقال: خرق، خرق).
ــــــــــ
(1) النقد المنهجي عند العرب ص 13.