/ صحفة 357 /
عباده شيئا لأنزل إليهم ملائكة، وبإنكارهم البعث والدار الآخرة، واستماتوا في الدفاع عن عقائدهم وآلهتهم، ونسوا أن محمداً عاش فيهم عمراً طويلا لم يقل فيه يوما قولة كاذبة، ولم يخن فيه يوما أمانة اؤتمن عليها، وأنهم لذلك كانوا يلقبونه بالصادق الأمين ـ لم يذكروا شيئاً من ذلك، ولم يفكروا فيه، ولكنهم فكروا فقط في أن الدعوة الجديدة التي استعلنت بعد الاستخفاء، وتحدَّت بعد ما ظنوه بها من الاستخذاء، يجب أن تموت في مهدها، ويجب أن تكتم أنفاسها قبل أن تنبعث حرارة هذه الأنفاس إلى البلاد والقبائل والشعوب.
ورحبت الدعوة الإسلامية بهذا النضال، وتحملت جميع مقتضياته وأثقاله، وكان ذلك أول النصر لأن النور لا يظهر إلا بالاحتكاك، والمبادئ لا تعرف أولا تشتهر أنباؤها إلا بالمعارضة، ولأن الفرصة بذلك تسنح مراراً لأن يبدئ الداعي بها ويعيد، ولو أن دعوة من الدعوات قوبلت من الناس بالقبول، فلم يختلف فيها اثنان، لما كانت انقلاباً ولا إصلاحا ولا ثورة على وضع ظالم، أو حكم فاسد، ولما كانت إلا إقراراً للواقع على ما فيه، ورضا بما هو حاصل، فلا مبرر لقيامها، ولا يمكن أن تحسب في التاريخ بين الدعوات.
سورة الأنعام مظهر كامل لهذا النضال:
أخذت سور القرآن في هذه المرحلة تتلاحق، وأخذت آياتها تتعاون وتتآزر وكانت أغراضها متشابهة إلى حد بعيد، وكان أولها وأحفلها بما نزلت له من أغراض بعد أمر الرسول بإعلان الدعوة والصدع بها؛ هي سورة ((الأنعام)) فقد جمعت كل العقائد الصحيحة، وعنيت بالاحتجاج لأصول الدين، وتفنيد شبه الملحدين، وإبطال العقائد الفاسدة، وتركيز مبادئ الاخلاق الفاضلة.
ولو أن ناظرا في هذه السورة أراد أن يستخلص من آياتها وعباراتها وأساليب حجَجِها ما يتَّخذ أساساَ لمعرفة الدعوة الإسلامية في أصولها الاعتقادية، المتعلقة بالألوهية والربوبية والرسالة والوحي والبعث والجزاء، وما للمبطلين على ذلك كله من شبة، وما يتبين به فساد شبههم من براهين وإشارات وتوجيهات ـ