/ صحفة 351 /
ولكني أحل هذا الإشكال على نحو آخر، ذلك أن قراءة الأفعال بالياء على الحديث عن الغائبين ظاهر في أن الآية مكية، وأنه تعالى يلزمهم بما يعرفونه من نزول الكتاب على موسى وكان العرب يعرفون ذلك ويسمعون به، ثم يلزمهم بما ينزل فيهم من القرآن في قوله: ((وهذا كتاب أنزلناه...)) الآية، فهذه القراءة ظاهرة ولا تحتاج إلى تخريج، أما قراء الأفعال بالخطاب ((تجعلونه)) و ((تخفونها)) و ((تبدون)) وهي القراءة التي نقرأ بها عن حفص، فالخطاب فيها كما أرى ـ والله أعلم ـ موجه إلى الناس على الجملة لا إلى مشركي مكة، ولا إلى يهود المدينة، فالله يقول: قل يا محمد لكل من حدثته نفسه بهذه الشبهة، وهي الشبهة في إنزال الوحي على البشر: ((من أنزل الكتاب الذي جاء به موسى)) وذلك أن هذه الشبهة عالمية إنسانية، أي، الإنسان يتحير في أمر نزول الوحي على بشر لأنه يعرف في نفسه الضعف والبعد عن الاتصال بالله والملأ الأعلى على هذا النحو الذي يطلب منه الإيمان به، ولكنه مع ذلك مفطور على الإيمان بقوى غيبية يراها تسير هذا الكون وتسخره، وتقدر له وتدبره فيقول في نفسه لعل الوحي مما تفعله هذه القوة الغيبية، ولذلك نراهم يتوسطون في نفيهم والتعبير عن شبهتهم فلا يقولون: لا ينزل الله وحيا، ولكن يقولون: ما أنزل الله على بشر من شيء، أو ابعث الله بشراً رسولا. إن هذا الارجل منكم يريد أن يتفضل عليكم... الخ فهو إنكار لوقوع ذلك لا لجوازه، أو كما يقول ابن كثير: هو سلبٌ عام، جوابه الإثبات الجزئي، ونعود إلى موضوعنا فنقول: إن الخطاب لكل من تعتريه هذه الشبهة من الناس، وقوله تعالى: ((تجعلونه قراطيس تبدونها وتخفون كثيرا)) موجه إلى الناس على معنى أن فيهم من جعله كذلك وهم اليهود فالناس مسئولون عن ذلك في الجملة لأنه صادر من بعضهم، كأنه قال: ألم ننزل عليكم أيها الناس كتاباً هو الذي جاء به موسى فجعلتموه ـ أي جعله بعضكم وجنسكم ـ قراطيس..الخ.
وقد يُستظهر على هذا بأن بيئة الكلام وسياقه وجَوه فيها إشعار بأن الحديث ليس إلى قوم مخصوصين، وإنما هو إلى الناس، إلى العالمين، إلى البشر،