/ صحفة 350 /
المعاندون الذين يقولون ما أنزل الله على بشر من شيء، فقد وكل الله بها قوما ليسوا بها بكافرين، فهي حقيقة متقررة آمن هؤلاء بها أم لم يؤمنوا، وليس ي إرسال الرسل من البشر، وإنزال الكتب عليهم ما يتنافى مع شيء من صفات الألوهية حتى يعجبوا منه أو ينكروه، وإنما هو على العكس من ذلك مما تقضى به حكمة الإله ورحمته وسنته في دعوة البشر إلى ما ينفعهم، فالذين ينكرون ذلك لا يقدرون الله حق قدره، ولا يعرفون ما هو من مقتضيات حكمته ورحمته وسنته في الهداية.
هذه هي الوجوه التي يترجح بها أن الآية مكية كسائر آيات السورة، وهي التي تعارض شبهتهم في أن الأفعال: ((تجعلونه)) و ((تبدونها)) و ((تخفون)) دالة على أن الخطاب لليهود، ولم يكن اليهود إلا بالمدينة. ولكن معارضة هذه الشبة لا يعفى الباحث في هذا الشأن من تخريج الأمر فيها، وقد حاول بعض المفسرين ذلك على أساس أن الآية نزلت مرتين إحداهما بمكة، والأخرى بالمدنية، وأن اليهود بالمدينة قالوا كما قال المشركون بمكة: ((ما أنزل الله على بشر من شيء)) قالوا ذلك عناداً ولجاجاً، كما في بعض الروايات، ويعرف ذلك في نظرهم من أن في الآية قراءتين: ((يجعلونه قراطيس يبدونها ويخفون كثيراً)) بالياء التحتية، وهذه هي القراءة التي نزلت بمكة، فهي تحدث المشركين بأن اليهود يجعلون الكتاب الذي جاء به موسى قراطيس الخ، والقراءة الأخرى بتاء الخطاب في الأفعال كلها، وهذه القراءة هي التي نزلت بالمدينة في مواجهة اليهود خطاباً لهم.
وممن بنى على هذا صاحب المنار في تفسيره، ولست أوافقه، فإن القول بنزول شيء مرة بمكة ومرة بالمدينة ليس بذاك، ولا يطمئن إليه الباحث. والروايات التي تأتي بمثل ذلك محتملة للخطأ، فقد يقع حادث بالمدينة تنطبق عليه آية مكية فيتلو الرسول هذه الآية عند الحادث، فيظن أنها نزلت مرة أخرى بالمدينة، وإنما تليت تلاوة، وقد يكون المروي عنه لم يسمع الآية من قبل فيظها نزلت حينئذ فيقول ذلك فيروي عنه، على أنه لا تتبين الفائدة من نزول شيء واحد مرتين.