/ صحفة 347 /
فالآية الأولى تتضمن سؤالا يوجَّه إليهم يومئذ تبكيتاً لهم، والآية الثانية تصور حيرتهم حين بلقى عليهم هذا السؤال، واضطرارهم إلى الخروج من مأزقهم بإنكار ما كانوا عليه في الدنيا من الشرك، والآية الثالثة تعقب على هذا فتلفت النظر إلى كذبهم على أنفسهم، وضلال شركائهم عنهم، أي عدم وجودهم يومئذ ليقذوهم، فهذا معنيً متماسك لا ينبغي أن يمزّق فيجعلَ بعضه في مكة وبعضه في المدينة، فما الذي حملهم على ذلك؟ إنه اجتهاد خاطئ أيضا، يفسره لنا قوله قاله ابن كثير في تفسيره لهذه الآية، فقد نقل عن الضحاك عن ابن عباس أنه يقول في آية ((ثم لم تكن فتنتهم)): هذه في المنافقين، ثم عقب ابن كثير على هذه الرواية بقوله ((وفيه نظر، فإن هذه الآية مكية ـ أي بناء على ترجيح أن السورة كلها مكية ـ والمنافقون إنما كانوا بالمدينة، والتي نزلت في المنافقين آية المجادلة: ((يوم يبعثهم الله جميعاً فيحلفون له كما يحلفون لكم ويحسبون أنهم على شيء، ألا إنهم هم الكاذبون)) وهكذا قال في حق هؤلاء ((انظر كيف كذبوا على أنفسهم وضل عنهم ما كانوا يفترون)) كقوله ـ أي عن المشركين في سورة غافر ـ ((ثم قيل لهم أين ما كنتم تشركون من دون الله، قالوا ضلوا عنا، بل لم نكن ندعو من قبل شيئا، كذلك يضل الله الكافرين)).
فكأني بابن كثير يقول لمن زعموا أن الآية مدينه:لقد أخطأتم فمي مكية وجاءكم الخطأ من أنكم ظننتم أن الحاف في آية الانعام:((والله ربنا ما كنا مشركين))؛ هو الحلف المذكور في آية المجادلة: ((فيحلفون له كما يحلفون لكم)) فإن المجادلة سورة مدنية، وآيتها في المنافقين، فهذا هو الذي أقضي بكم إلى الخطأ، والحقيقة أن آية الأنعام مكية وأنها في المشركين الذين كانوا في مكة، وليست في المنافقين الذين كانوا بالمدينة، فإذا أردتم أن تعرفوا أن هذا المعنى جاء في غير هذا الموضع من المكي، فاقرءوا سورة غافر المكية، فإن فيها هذا المعنى، وذلك قوله تعالى: ((قالوا ضلوا عنا، بل لم تكن ندعو من قبل شيئا)).
بذلك يتبين أن الرواية التي اعتمدوا عليها ـ إن صحت ـ لا ينبغي أن تُجرى مُجرى الإسناد، فإنما هي اجتهاد ظهر خطؤه، والله أعلم.