/ صحفة 295 /
ولعل مثل هذا من عبد الله بن عمر هو الذي جعل النبي صلى الله عليه وآله وسلم يرخص له ولأمثاله في اعتزال الفتن، لأنهم بلغ من كراهتهم لها أن ساووا فيها بين المحق والمبطل، فيخشى عليهم إذا اشتركوا فيها أن يؤثر عليهم المبطل فيضمهم إلى جانبه، ويروا فيه ما رأى عبد الله بن عمر في بني أمية أنهم كانوا أصحاب بيعة، مع أنها كانت بيعة باطلة أخذت بالقوة، ولم تؤخذ بالشورى التي لا تصح بيعة إلا بها، لأنها تكون مأخوذة برضا المسلمين واختيارهم، ولا شك أنهم أصحاب الحق فيمن يولونه عليهم، فيجب أن تكون ولايته عليهم برضاهم واختيارهم، وبهذا كان الاسلم لعبد الله بن عمر وأمثاله في دينهم اعتزال تلك الفتن، وكان هذا رخصة لهم لا يشاركهم فيها غيرهم، وقد سبق أن هذا كان رأى طائفة من العلماء فيهم.
والحقيقة أن الفتن يجب أن يجرى فيها ما هو الاصل في كل منكر، وهو قوله صلى الله عليه وآله وسلم ((من رأى منكم منكراً فليغيره بيده، فإن لم يقدر فبلسانه، فإن لم يقدر فبقلبه، وذلك اضعف الايمان)) فيجب أن يجرى هذا الاصل في أسباب الفتن، من المنكرات التي تحمل بعض الناس على إثارتها، وفي نفس الفتن بعد قيامها، فلا يسوى فيها بين المحق والمبطل، بل تجب مساعدة المحق على المبطل باليد أو باللسان أو بالقلب على ماجاء في تغيير المنكر في الحديث السابق.
ولكن يجب أن يلاحظ أن الحديث لم يأت فيه تغيير المنكر بالسيف والقوة، (؟) وإنما أتى فيه تغيير المنكر باليد واللسان والقلب، لما في استعمال السيف والقوة في تغيير المنكر من الخطر، لأنه هو الذي يدعدوا إلى إقامة الفتن بين المسلمين، وإلى تقسيمهم إلى فرق يقتل بعضها بعضا، وهذا أشد خطراً من المنكر الذي تقوم الفتن من أجله، وإنما تغيير المنكر باليد أن ترى شخصاً يحاول قتل آخر فتدفعه عنه، أو يحاول الزنا بامرأة فتحول بينه وبينها، مستعملا في هذا ما يجب من الحكمة في دفع الشر، حتى لا يؤدي دفعه إلى شر أشد منه.