/ صحفة 202 /
ولم يكن تعصب المبرد للفرزدق تعصب الهوى، وإنّما كان يصدر في تفضيله عن عقيدة، ويحتكم حين يفضله، أو يهجن شيئاً من شعره إلى آراء سديدة في النقد، فهو يعيب بيته المشهور بما فيه من التعقيد اللفظي، والذي لا يزال علماء البلاغة يمثلون به، للتعقيد اللفظي الشديد.
وما مثله في الناس الا مملكا أبو أمه حي أبوه يقاربه
ويزيد على عيب ما فيه من تعقيد عيبه بأن المعنى نفسه ليس شيئاً، ولو جاء البيت على وجهه ثم يميل بينه وبين أبيات أخرى للفرزدق ويقول: (كأن هذا الشعر لم يجتمع في صدر رجل واحد مع قوله حيث يقول:
تصرم مني ودبكر بن وائل وما كان مني ودهم يتصرم
قوارص تأتيني وتحتقرونها وقد يملأ القطر الاناء فيفعم
وكأنه لم يقع ذلك الكلام لمن يقول:
والشيب ينهض في السواد كأنه ليل يصيح بجانبيه نهار
فهذا أوضح معنى، وأعرب لفظ، وأقرب مأخذ).
ويقف الفرزدق عند سليمان بن عبد الملك، فيستنشده، فينشد:
وركب كأن الريح تطلب عندهم لها ترة من جذبها بالعصائب
سروا يخبطون الريح وهي تلفهم إلى شعب الأكوار في كل جانب
إذا آنسوا ناراً يقولون ليتها وقد خصرت أيديهم نار غالب
فيعرض سليمان كالمغضب، كأنه أراد أن ينشده مدحا له، فيتقدم نصيب، وينشد:
أقول لركب صادرين لقيتهم قفاذات أو شال ومولاك قارب:
قفوا خبروني عن سليمان انني لمعروفه من أهل ودان طالب
فعاجوا فأثنوا بالذي أنت أهله ولو سكتوا أثنت عليك الحقائب
ويعجب الخليفة بنصيب، ويفضله الناس في موقفه، ويعترف أبو العباس بأن قول نصيب في باب المدح حسن ومتجاوز ومبتدع لم يسبق إليه، ولكنه