/ صفحه 341/
ومنها ماهو سلبي يراد به التحصن من الباطل، ومقاومة إغرائه باهماله، وذلك ما ينهي عنه الله عزوجل بقوله "و لا تتبع أهواءهم" فالمصلح لواتبع الاهواء متهاونا أو متأولا أو مجاملا: اضطرب عليه أمره، وطمع فيه خصمه، وساورت الشكوك قلوب أصحابه، فلن تكون له بعد ذلك قوة، ولن تقوم لدعوته قائمة.
و منها ما يراد به إنصاف العقول، وإدخال الطمأنينة على القلوب، فإن الداعي يجب أن يعلم أن دعوته ستعرض على عقول الناس، فإن رأوها حقاً استراحت عقولهم، ثم هم سينظرون إليها من زاوية حياتهم وما به يطمئنون على مستقبلهم، فقد يكون الشيء حقاً في ذاته، ولكنه يجد المنكرين له، لانهم ترقبوا أن يكون رسوخه فيهم وبالا عليهم، أو وسيلة إلى ظلمهم واهتضام حقوقهم، فهم يرفضونه، وإن آمنت به قلوبهم، استجابة لمصالحهم، وتلبية لعواطفهم، ولذلك أمر الله رسوله بأن يقول الناس جميعاً "آمنت بما أنزل الله من كتاب" ليطمئنهم إلى أنه ليس "بدعاً من الرسل" وإنما هو داع إلى ما دعوا إليه، مؤمن بما آمنوا به: "آمن الرسول بما أنزل إليه من ربه والمؤمنون كلَّ آمن بالله وملائكته وكتبه ورسله، لانفرق بين أحد من رسله" وأمره عقب ذلك بأن يبين لهم في عبارة حاسمة أنه أمر ليعدل بينهم فلا يمكن أن يكون اختلافه وإياهم في العقيدة سبباً في ظلمهم، أو سبيلا إلى اهتضام حقوقهم، وانظر ـ أيها القارىء ـ إلى قوله تعالى "و أمرت لاعدل بينكم" حيث أتى بحرف اللام في قوله "لاعدل" ولم يقل "بأن أعدل" فانى أحسب أن السر في هذا التعبير هو أن يدركوا أنه مأمور من ربه بأن يسلك كل السبل، ويتوسل بكل الوسائل ليحقق العدل بينهم: يعلم ليصل لالعلم إلى تحيق العدل، يقوى ليصل بالقوة إلى تحقيق العدل، يجنب العصبية في نظره وفي حكمه، يحلم، يصبر، يتسامح أحيانا، كل هذا يفعله لخصمه كما يفعله لصديقه، فكأن المأمور به في قوله "أمرت" حذف ليعم جميع الوسائل التي بها يحقق العدل، واكتفى بذكر الغاية التي يجب الوصول إليها في قوله: "لا عدل".
هذه هي الخطة التي رسمها القرآن الكريم لصاحب أعظم دعوة عرفتها الانسانية، ولها سر يتمثل فيما جاءت به الآية بعد ذلك من إفهام المختلفين بأنه لا داعي للاختلاف، ولا مصلحة لاحد الفريقين فيه، فكل منهما مسئول عما يذهب إليه من حق أو باطل، محاسب عليه حين يرجع إلى ربه "الله ربنا وربكم، لنا أعمالنا ولكم أعمالكم، لا حجة بيننا وبينكم، الله يجمع بيننا وإليه المصير".
وفي غير هذا الموضع من القرآن يرشد الله رسوله إلى