/ صفحه 33 /
وينتسب إلى أم فقيرة، والعرب لا يفاخرون بنسبتهم إلى النساء، لكن بنسبهم لأصلابهم ورجالهم فكيف لا يفاخر بهذا كله؟ ألم يكن ذلك لقهر النفس وإعلان قومه أن لا هدف له سوى رفع شأن الأُمة وهدايتها إلى الطريق القويم غاضا الطرف عن شخصه وذاته؟ أليس في هذا الصنيع معنى سام يجعل المرء يفنى في مبدئه دون أن يحوم حول نفسه؟.
ثم انظر: كيف كان الوحي له هادياً ومرشداً إذ قام عليه الصلاة والسلام يدعو إلى الله رجلاً من كبار مشركي قريش، وبينما هو كذلك مر عليه رجل ضرير مسلم يسترشده في أمر من الأُمور الدينية، وعطل بذلك محادثة الرسول مع المشرك الكبير، فغضب الرسول على الضرير المسلم ولم يكلمه وولى وجهه عنه، فلم يلبث أن نزل عليه الوحي معاتباً له على ما عامل به هذا الضرير رغم أن مركزه الاجتماعي أقل كثيراً من
ذلك المشرك الكبير: "عبس وتولى أن جاءه الأعمى وما يدريك لعله يزكى أو يذكر فتنفعه الذكرى أما من استغنى فأنت له تصدى وما عليك ألا يزكى وأما من جاءك يسعى وهو يخشى فأنت عنه تلهى" فكان هذا الضرير إذا مرّ بعد ذلك بالمسجد حياه رسول الله صلى الله عليه وسلم بقوله (مرحباً بمن عاتبني فيه ربي) .
تلك هي تعاليم الإسلام التي توحي بأن لا عظمة للعظيم إلاّ بتواضعه وتكريمه للفقير، ومساواته الضعيف بالقوي، وهناك ما هو أقوى من ذلك وأدلّ على عظمة هذا الرسول وحبه للأمة وللعدل والمساواة كحادثة الرجل الذي طلب منه صلى الله عليه وسلم أن يُقصَّه من نفسه لضربة ضربه إياها، فأذن له بأن يقتص منه، وكشف له عن صدره، فلم يسع الأعرابي أمام هذا المظهر السامي إلاّ أن يترامى على صدر الرسول يقبله ويبكي .
فمن من الحاكمين يصل إلى هذه المعاني السامية التي تتضاءل أمامها معاني الديمقراطية الحديثة؟.