/ صفحه 315/
هذا كما أشرب الرحيق، فينشر في نشوة سأسأل شاربي الخمر عن دبيبها، يخيل لي ـ يا أبه ـ بعد الذي سمعت أنك لست إنسانا، وإنما أنت ملك يغرس في ريش من أجنحته، بقيت عندى مسألة لا أحب أن يفوتني علمها.
قال ياسر لابنه: قل وخلاك ذم إن يكن عندى خير فهو لك.
قال عمار: يا أبتي رأيتك تعظم من بني هاشم ما لا تعظم من بني مخزوم، وقد أعلم أن بني هاشم أرفع مكانه، وأعز نفرا، ولكن مخزوما حلفاؤك، وذووا الفضل عندك، أليس من الوفاء لهم أن تحبس عليهم ميلك.
فقال له أبوه: وصلتك رحم يا بني. أنا إنما أعظم الحق بمعزل عن هاشم ومخزوم، ولو حدثتك بحديث القلب والعاطفة لكنت جديراً بالميل إلى أحلافي كما زعمت، ولكنى أعلم أن ميلى العصبى ككل ميل عصبى، لا يغنى عن الحق
شبئا، ولا يغير منه شئياً، وقد رأيت بعيني رأسي وعيني يقيني ـ وهن أربع ـ أن الفرق بين هاشم وبين عامة قريش، وأفضلهم مخزوم، كالفرق بين إله هاشم وبين آلهة قريش. أولئك أرواح برة نشيطة عاملة مدركة، وهؤلاء تماثيل جامدة ثقيلة بغيضة، فإذا تحركت لم تأت بخير.
خذ الحق ـ يابني ـ حتى من نفسك، فورب عبدالمطلب لو فارقتني أنت فيه لفارقتك، ولكن أعظم برى بك وحبي إياك أن أدخلت عليه، أو أدخله عليك ما استطعت، فإن لم أستطع كان أعظم حبي أياك وبرى بك أن أرثي لحالك من بعد هذا قياس وفائي لمخزوم: أهبها قلبي وأمنع عنها عقلي إلا في الحق فإن خالفت الحق رجوت لها أن تعرفه، وهذا أعظم الوفاء.
و بلغا من حوارهما هذا الحد.
قال المحدث: وكان حوارهما هذا من حديثهما الصباحي، وكان صباح (مكة) صباحا قرشياً مترفاً، وتحتشد فيه الاندية، ويطيب فيه الحديث، وكان ياسر يتخلف عن نادى بني مخزوم أحيانا ليجلس إلى ابنه يجاذبه كلاما هو أشبه بالدرس منه بالعبث والمفاكهة اللذين تصرف بهما قريش السأم عن الوقت، وكان لياسر