/ صفحه 293/
ومن جهة أخرى هذا الاستعمار الغربي أوحي بحركة إيجابية فكرية في الشرق الإسلامي، وكان نفسه لهذا عاملا من عوامل النهضة الإسلامية الحديثة. وإذا كان النصف الأول من القرن التاسع عشر المسرح الزمني لقوة الاستعمار الغربي في الشرق الإسلامي، فإن النصف الثانى منه شهد مولد الحركات والنهضات القومية في هذا الشرق، كصدى ورد فعل لهذا الاستعمار.
و استهدفت هذه الحركات عكس ما استهدفه الاستعمار في الشعوب الإسلامية: استهدفت جمع الكلمة للمسلمين عن
طريق الرجوع بهم ا لي الإسلام في عهده الأول، وإلى طريقة السلف في فهم القرآن والتعاليم الإسلامية، كما استهدفت الاستخاف بالتقليد للمذاهب القائمة والتعصب لها، وأوضحت كغاية أخيرة لها معالم الشخصية الإسلامية وحدودها التي تتمثل في استقلالها ووجوب الحرص على هذا الاستقلال: فاستقلالها كدولة يوجب فرض ا لجهاد والقيام به على جميع أفرادها، واستقلالها كعلماء وموجهين يوجب على العلماء والموجهين الاجتهاد في فهم الإسلام بما يلائم أحداث العصر وحاجاته، ونبذ التقليد الطيع للمذاهب القائمة على أنها اتجاهات لا تقبل التعديل.
و قد راعي هذه الحركات في النصف الثانى من القرن التاسع عشر جمال الدين الافغانى ومحمد عبده ومحمد اقبال.
وهذه الحركات بدورها أو حت بمعارضين لها من علماء المسلمين، وأرجعوا معارضتهم إياها إلى سند من الإسلام، كما حاولوا أن يشرحوه بما يلائم رغبتهم الخاصة في المعارضة، وأصبح جمال الدين الافغانى ومحمد عبده في نظرهم منحرفين عن الطريق السليم في فهم الإسلام بما يدعوان إليه من جواز "الاجتهاد" ونبذ التقليد.
ولم تزل النهضة الفكرية الإسلامية تسير في طريقها الذي عبد لها أولا، وإن كان الآن بخطوات فسيحة عن ذى قبل، ولم تزل معارضة الاسس التي قامت عليها موجودة وإن كانت في صورة من اليأس أو الهزال.