/ صفحه 289/
نهض في تفكيره، وتخلص من المظاهر التي سادت التوجيه هناك في القرون الوسطى، وهي تشبه إلى حد كبير تلك الأُخرى التي سيطرت على تفكير المسلمين في القرن السادس الهجري، أو القرن الثالث عشر الميلادي: وهي تعدد في
مدارس التوجيه، وخصومة عنيفة بين أصحاب هذه المدارس، وجدل نظري لا يتصل بواقع الحياة، يسيطر على البحث والعمل العقلي، ودوران للفكر في حلقة مفرغة من الآراء، وترديد في غير ملل لأفكار لا توصل صراحة إلى ماض معين، ولا تعالج أمراً من أمور الحاضر .
فالنهضة الاوربية ميزت الغرب عن الشرق، وجعلت العقل الغربي يعالج الطبيعة في واقعها وفي تطور خصائصها، ومكنته من أن يستخدمها ويسخرها لخدمته ورفاهيته .
وأغراه بحثه الطبيعي، وأغرته النتائج التي وصل إليها في بحثه في الطبيعة إلى أن يزيد في قيمة الحضارة المادية، وعلى حساب القيم المعنوية والروحية. وجدت مذاهب في السلوك الإنساني ـ كالميكيافيلية، ومذهب المنفعة ـ نتيجة لهذا التفضيل، ودفعت بالرجل الغربي إلى اقتناص المنفعة المادية بأية وسيلة، وفي أي مكان، وعلى أي صورة: فالغاية في نظره تبرر الوسيلة، والحياة ليست إلا انتهازاً للفرص. وما وراء ذلك من معاني الحرمات، والانسانية، وحقوق الغير من الناس والأوطان، وأمثالها يضعها تقديره الخاص للأشياء في المنزلة الثانية.
امتاز الغرب عن الشرق بالبحث الطبيعي، بينما وقف بحث الشرق في دائرة النظر المحض، وتغير مقياس الرجل الغربى في الحياة، فأصبح أساسه المنفعة الواقعية، بينما بقى الرجل الشرقى يحلق في جو من المثالية، والمثالية الخيالية.
هذا الفارق بين الغرب والشرق هيأ للغرب أن ينتفع بالشرق، وأعد الانسان الشرقي لتسهيل مهمة الغربي في وطنه. فواقعية الغرب مكنته من الانتفاع، ومثالية الشرق أو وقوفه في دائرة النظر بعيداً عن الواقع جعلته متساهلا أو متسامحا ً أو غاضا النظر عمايجرى في واقعه، لانه لا يحفل بواقعه هذا إلا قليلا تحت تأثير تفكيره النظرى.