/ صفحه 248/
إذا كان على ثقة من نفسه، وعلى بينة من أمره، ولذلك روى عن بعض الصالحين أنه كان يقف أمام أحد القضاة طالباً حقه من مغتصب لا بينة له عليه، فوجه إليه القاضي اليمين، فلما سمع هذا التوجيه أصفر وجهه واضطراب اضطرابا شديداً مع علمه الصدق في نفسه، وأنه على الحق، ثم لم يلبث أن فاضت عيناه بالدمع، فقيل له: ألست محقاً، فما يبكيك، ولم تضطرب هذا الاضطراب؟ فقال: ما بكيت اضطرابا من باطلي، ولكني استحييت أن أجعل الله عرضة ليمييني لعرض من أعراض الدنيا وقد سمعت قوله عزو جل "و لا تجعلوا الله عرضة لايمانكم" وأشهدكم أني وهبت خصمي حقي إيثاراً لربي!
نعم إن هذه القصة المؤثرة ليست هي المقياس التشريعي في قبول توجيه الايمان أو عدم قبوله، ومن حق من يشعر بأنه على الحق أن يستوفي باليمين حقه حين توجه إليه، ولا يكون بذلك مضيعاً يمينه، أو جاعلا الله عرضة فيها، ولكنى إنما سقتها لابين مدى الرهبة التي يشعر بها المؤمن القوى حين توجه إليه يمين باسم الله، فأين هذا ممن يجترىء كاذباً على اليمين، فيقتحم هذا الحمى وهو يعلم أنه حمى الله القوى العزيز؟ ولو لا أن الشعر خيال، وأن الشعراء "يقولون مالا يفعلون" كما قال الله عزوجل، لحسبت أن الله سوف لا يغفر لابن الرومي قوله:
وإني لذو حلف كاذب * * * إذا ما اضطررت وفي الحال ضيق
و ما في اليمين على محرج * * * بدافع بالله ما لا يطيق!
ولكني أحسبها دعابة من دعاباته، غفرالله له.
ثم أقول: كما أن الله تعالى يأمرنا بحفظ اليمين في ألانقدم عليها إلا واثقين مطمئنين، كذلك يقتضى هذا الأمر بلفظه أن نحفظها إذا حلفنا، فلا نضيعها، ولا نحنث فيها إلا لغاية يعلم الله من قلوبنا أنها غاية صحيحة مبررة للتحلل من هذا العقد، وذلك هو المُعَبّر عنه في الحديث الشريف بقوله (صلّى الله عليه وآله وسلّم): "فرأي غيرها خيراً منها" فالمؤمن بزن الأمر بميزان الحق لا بميزان الهوى والرغبة فلا يقدم على الحنث إلا إذا ظن أن الخير فيما سيفعل، والحقيقة أنه في هذه الحالة