/ صفحه 235/
أن يكونوا متبتلين رهبانيين، وإنما كانوا هم أنفسهم يبتدعون ذلك نزولا على معان فلسفية نبتت في أذهان بعضهم، ظناً منهم أنهم بذلك يرفعون من قيمة الانسان، يقوون من صلته بعالم السمو والكمال، وما دروا أنهم بذلك يصادمون فطرة الله، ويغفلون عما في هذه الفطرة نفسها من حكمة، حيث تعيين المادة أبلغ العون على إدراك المعاني الروحية، وتقوى بأساليها المختلفة، ومن حيث يشعر الانسان أو لا يشعر، رغبة الانسان في التعلق بالمعنويات، والنزوع إلى السمو بها واكتناه لذاتها وعرفان أسرارها، وفي القرآن الكريم إشارة إلى ذلك حيث يقول الله عزو جل "و رهبانية ابتدعوها ما كتبناها عليهم إلا ابتغاء رضوان الله فما رعوها حق رعايتها". قال المفسرون، معناه: أحدثوها وجاء
وابها من عند أنفسهم، وما فرضناها نحن عليهم، والاستثناء في قوله عزو جل "إلا ابتغاء رضوان الله، منقطع، والمعنى: ولكنهم ابتغوا رضوان الله بتلك الرهبانية فلم يرعوها حق رعايتها، والرهبانية المشار إليها هي ما حملوا أنفسهم عليه من المشاق في ا لامتناع من المطعم والمشرب والملبس والنكاح، والتعبد في الجبال، فهذه الآية مفيدة للمعنى الذي ذكرناه من أن الله تعالى لم يشرع هذه الرهبانية في دين الذين ترهبوا، وإنما هم الذين أحدثوها، وأن إحداثهم إياها كان فلسفة منهم ترمي إلى غاية هي في نفسها شريفة، وهي ابتغاء رضوان الله، ولكن الوسائل لا تقبل إلا إذا كانت مشروعة غير مناهضة لمبادىء الفطرة القويمة، كما تفيد أن هؤلاء الذين ابتدعوها لم يرعوها حق رعايتها، وعندى أن ذلك لانهم ـ بحكم بشريتهم ـ لم يطيقوها ولم يقدروا على التزامها، وهذا شأن كل التزام ينافي الطبيعة، ويخالف الفطرة، وإن السر أعظم السر في خلود الشريعة الإسلامية لفى إتياتها على حكم الفطر، وعدم منافرتها للطبائع ا لانسانية.
وفي ذلك عبرة يجب أن ينتفع بها واضعو القوانين، ومنظمو النظم، فإنما ينزل الناس على حكمها راضين، ويستمرون على احترامها في السر والعلن، إذا كانت تنظيما للفطرة، وتحقيقاً للمصلحة، أما إذا كانت تجا في طبائع الناس، وتناهض