/ صفحه 228/
إن هذا التفكير الملح في ما ضينا، له أثر يجب أن نحذره وألا ندعه يفسد علينا حاضرنا، فهو ليس تفكيراً حافزاً باعثاً منشطاً في كل حال كما ألفنا أن نصفه في أحاديثنا وخطبنا وما نكتبه عن الذكريات التاريخية، والمناسبات القومية، وإنما هو في واقع أمره دواء منوم مخدر يخدعنا عن أنفسنا إذا تعاطيناه بإفراط، واسترحنا إلى ما يحدثه من "تسكين" وقتي لآلامنا، وارضاء وهمي لخيلائنا.
إن الذين يعيشون على الماضي فحسب هم العجزة وأهل الضعف والقصور، إنهم لا يجدون في حاضرهم ما ييررون به
استحقاقهم للبقاء في الحياة، والانتساب إلى البشرية العاملة المثمرة التي ما خلقت إلا للاصلاح والتعمير، والابتكار والتثمير، فهم يجتروُّن مفاخر من الماضي فعلها آباؤهم وأجدادهم، ولو أنهم كانوا هم الذين فعلوها لما كان لهم أن يظلوا متعلقين بها، حرصاء على ذكرها والاصغاء إلى حديثها، كما يصغي الشيخ الهرم إلى ذكريات شبابه، ويسبح في خيال فتوته يوم كان وكان.
إن الإسلام لا يرضي بهذا للمسلمين، فهو لم يرضه لاهل الكتاب الذين كانوا يتباهون بتاريخهم، ويلوكون بألسنتهم مفاخر السابقين من الانبياء والمرسلين، ويحاولون أن ينتسبوا إليهم بالاقوال لا بالافعال، إذ يقول القرآن الكريم: "تلك أمة قد خلت، لها ما كسبت ولكم ما كسبتم، ولا تسألون عما كانوا يعملون" فالشأن في الكتاب الحق الذي يهدى للتى هي أقوم، إنما هو لعمل العامل، وكسب الكاسب، أما التشدق بما كان، والتشبث بما خلا، والغيبوبة فيما غاب، فتلك تعلات الضعفاء، ومعاذير العاجزين، وأساليب الفارين الناكصين.
* * *
والنقطة الثانية ذات صلة وثيقة بهذه النفطة الأولى، فلا ينبغي أن يفوتنا أن العلم في تطور، وأن الفكر الانسانى في تحول، وأن العالم كل يوم في استقبال جديد من النظريات والعمليات والمذاهب العقلية والاجتماعية، فما كان يشغل