/ صفحه 206/
عن أوصافها، فجمال الزهرة، الانساني، وجمال النحت والتصوير والموسيقى، والكلام، كل ذلك يدرك على حقيقته عن طريق الذوق، وقديما قال بعض الخلفاء العباسيين لإسحق الموصلي: صف لي جيد الغناء، فقال: يا أمير المؤمنين إن من الاشياء أشياء تصيبها المعرفة، وتعجز من أدائهاالصفة، وما قاله إسحق في جيد الغناء هو نفسه الذي يقال في جيد الكلام، والجيد من الفنون بعامة، وقد كنت قرأت قصة قديمة وقفت عندها طويلا; كانت عائشة بنت طلحة تنافس بالحُسْن سكينة بنت الحسين، فقالت لها سكينة يوماً: أنا أجمل منك، قالت عائشة: بل أنا، فاختصمتا إلى عمر بن أبي ربيعة فقال لاقضين بينكما، أما أنت يا سكينة فأملح منها، وأما أنت يا عائشة فأجمل، فقالت سكينة: قضيت لي ورب الكعبة، فهم إذن كانوا يفضلون الملاحة على الجمال، وفرق بينهما، إنك تستطيع أن تصف الجمال وتبين حدوده وقواعده، ولكنك لا تستطيع أن تصف الملاحة، وإنما تدرك الملاحة بالذوق، وبالذوق فقط.
و السكاكي قد ربط بين بلاغة الكلام وبين الملاحة حيث يقول: "واعلم أن شأن الاعجاز عجيب، يدرك ولايمكن
وصفه، كاستقامة الوزن تدرك ولا يمكن وصفها، وكالملاحة".
و قد اعترف الجاحظ بالعجز عن وصف الجيد من الكلام، فقد تذاكر الناس يوماً شعر أبي العتاهية بحضرته إلى أن جرى ذكر أرجوزته المزدوجة التي سماها ذات الامثال، فأخذ بعض من حضر ينشدها حتى أتى على قوله:
يا للشباب المرح التصابي * * * روائح الجنة في الشباب
فقال الجاحظ للمنشد: قف. ثم قال: انظروا إلى قوله: روائح الجنة في الشباب، فإن له معنى كمعنى الطرب ا لذى لا يقدر على معرفته إلا القلوب، وتعجز عن ترجمة الالسنة إلا بعدالتطويل وإدامة النظر.
قلت: ووهم الجاحظ حيث ظن أن الألسنة تستطيع أن تصف معني هذا الكلام، أو معني الطرب بعد التطويل، وإدامة النظر، فمهما بلغ الجاحظ