/ صفحه 195/
فيثور الفرزدق على جرير في قلبه الوضع وركوبه رأسه لهجائه تميما ومدحه قيساً لارتشائه منهم تلك الثياب التي لا تستر، والعمائم البالية، فهو كالسائر في الصحراء معه الماء يلقيه من يده مخدوعا بالسراب المذاع من الرياح اللافحة الذي يحسبه الظمآن ماء حتى إذا جاءه لم يجده شيئاً، ووجه الشبه كماترى.
واستغراب الفرزدق عقوق جرير تميما ردده كثيراً، فمن ذلك قوله.
أسكران كان ابن المراغة إذ هجا * * * تميماً بجوف الشام أم متساكر(1)
و في هذا البيت نبزه بلقب لامه امتهانا له وإفحاشا في أمه، وشاع هذا النبز وعلق بجرير طوال أياسه.
أما الفرزدق فكان أكثر منه مالا وأعز نفرا، فلم يكدح في الكد على عيشه ويطرح نفسه كل مطرح، ويمتدح أحداً إلا في فترات حملته ظروفها وملا بساتها عليه، كما لم يدع الافتخار بأسلافه والمباهاه بعشيرته في أحرج المواقف وأدعاها إلى التطامن والخنوع، ففي ذات يوم مثل بين يدى الخليفة سليمان بن عبدالملك فأستنشده شعرا، وأضمر أنه لابد مادحه، فأنشده شعراً يشيد فيه بأبيه غالب، من ذلك:
و ركب كأن الريح تطلب عندهم * * * لها ترة من جذبها بالعصائب
سروا يخبطون الريح وهي تلفهم * * * إلى شعب الاكوار ذات الحقائب
إذا أبصروا ناراً يقولون ليتها * * * وقد خصرت أيديهم ـ نار غالب(2)
ـــــــــــ
1- المراغة الاتان التي لا تمتنع عن الفحول، والبيت من شواهد الكتاب ص 23 ج 1
2- تره: تأراً، والعصائب: جمع عصابة وهي العمامة تعصب على الرأس، والاكوار: الرحال، والحقائب: جمع حقيبة، والمراد بها هنا كساءٌ على عجز البعير، وخصرت اشتد عليها البرد.
فتمعر وجه سليمان وأعرض عنه كالمغضب، ولم يباله الفرزدق اتكاء على عصبته أولي القوة. ولما حج هشام في عهد أبيه عبدالملك أعياه الوصول إلى الحجر الاسود في الطواف حول الكعبة لكثرة الزحام، فلما أقبل على