/ صفحة 420/
اهتماماً به، فأطلقه أولا، ثم جعل المقيد بدلا من ذلك المطلق، تفخيماً لامر ذلك الايلاف، وتذكيراً لعظيم المنة فيه، والاقرب أن يكون قوله ((لايلاف قريش)) عاماً يجمع كل مؤانسة وموافقة كان بينهم، فيدخل فيه مقامهم وسيرهم وجميع أحوالهم، ثم خص ايلاف الرحلتين بالذكر، لأنه قوام معاشهم، وقد نبه بالايلاف إلى أن من شرط السفر المؤانسة والالفة، لأنه أحوج إلى مكارم الاخلاق من الاقامة.
وما كان للقرآن الكريم أن ينظر إلى اشتغال قريش بهذه التجارة غير هذه النظرة، لأنه حاء بدين ينهض بها وبالعرب جميعاً، وينقلهم من البداوة إلى الحضارة، ومن الامية إلى العلم والحكمة، ومن الفوضى إلى النظام والدولة والتجارة من أهم أركان الحضارة، ولا غنى عنها في قيام الدولة.
وأين من هذه النظرة الكريمة، نظرة الشعر إلى هذه التجارة، حين ضاق شاعر قرشى من اشتغال قومه بها، وانصرافهم عن الاشتغال بالحروب التي كانت العرب تشتغل بها، فترفع من ذكر أبطال الحروب، وتبنى لهم ما تبنى من المجد، وليس للتجارة مثل هذا الشأن.
وهذا الشاعر هو عبدالله بن الزّبعرى من شعراء مكة، فقد هجا قومه قريشاً لاشتغالهم بهذه التجارة، فأصبح الناس يوماً بمكة، وعلى باب الندوة مكتوب:
ألهى قصيّاً عن المجد الاساطير *** ورشوة مثلها ترشى السفاسير
وأكلها اللحم بحتاً لا خليط له *** وقولها رحلت عيرٌ أتت عير
فأنكر الناس ذلك، وقالوا: ما قالها الا ابن الزبعرى، وأجمع على ذلك رأيهم، فمشوا إلى قومه بني سهم، وهم بطن من قريش، وكان مما تنكر قريش وتعاقب عليه أن يهجو بعضها بعضاً، فقالوا لبنى سهم: ادفعوه الينا نحكم فيه بحكمنا قالوا: وما الحكم فيه؟
قالوا: قطع لسانه.
قالوا: فشأنكم، واعلموا والله لا يهجونا رجل منكم الا فعلنا فيه مثل ذلك.