/ صفحة 419/
((انكم أجدبتم جدباً تقلون فيه وتذلون، وأنتم أهل حرم الله وأشراف ولد آدم، والناس لكم تبع)) .
فقالوا له: نحن تبع لك، فليس عليك منا خلاف.
فجمع كل بني أب على الرحلتين، في الشتاء إلى اليمن، وفي الصيف إلى الشام، فيذهبون اليهما للتجارات، فما ربح الغنى قسمه بينه وبين الفقير، حتى صار فقيرهم كغنيهم، فجاء الإسلام وهم على ذلك، حتى انه لم يكن في العرب أكثر مالا، ولا أعز من قريش، ولهذا قال الشاعر فيهم:
الخالطين فقيرهم بغنيهم *** حتى يكون فقيرهم كالكافى
وقد كانت مكة خالية من الزرع والضرع، لانها كانت بواد غير ذى زرع، فكان أشرافها يرتحلون للتجارة هاتين الرحلتين، ويأتون لانفسهم ولاهل بلدهم ما يحتاجون إليه من الاطعمة والثياب، وهم إنّما كانوا يربحون في أسفارهم، لأن ملوك النواحى ورؤساء القبائل كانوا يعظمونهم، ويقولون هم جيران بيت الله وسكان حرمه، وولاة الكعبة، حتى أنهم كانوا يسمّون اهل مكة اهل الله، فامتازوا بهذا على غيرهم من العرب، لانهم كانوا يتخطفون من كل جانب، ويتعرض لهم في نفوسهم وأموالهم، فلما نزل القرآن الكريم نوه بشأن هذه التجارة، وامتن على قريش بهاتين الرحلتين، ولم يغض من شأنها حين انصرفت اليهما قبل الإسلام، ولم تعتمد على الكسب الحرام الذي كانت العرب تعتمد عليه حين يغير بعضها على بعض للسلب والنهب، فيأكل القوى الضعيف ويستحل ماله ونفسه.
وكان تنويه القرآن بشأن هذه التجارة في سورة خاصة بها، سماها سورة قريش، وهي من قصار السور، وفيها يقول جل شأنه:
((لايلاف قريش، ايلافهم رحلة الشتاء والصيف، فليعبدوا رب هذا البيت، الذي أطعمهم من جوع وآمنهم من خوف)) .
فامتن عليهم في هذه السورة بايلافهم هذه التجارة، وقد كرر الايلاف مرتين