/ صفحة 399/
ولنأخذ مثلا آخر عن جرائم العلانية، وهي السب والقذف وجرائم النشر، فالقوانين الوضعية تمنع أي انسان من أن يجاهر بفاحش القول، أو سيئه يوجهه إلى آخر، وذلك حماية لاسماع الناس من أن تتأذى بمثل هذا الهجر، وحماية لاخلاقهم من أن تندس إليها تلك القبائح، ولأن في ذلك أذّى لمن وجه إليه هذا السوء، فاسمع ما ورد في القرآن عن هذه الجرائم جميعها في كلمات قليلة:
((لا يحب الله الجهر بالسوء من القول)) ولو أن الآية انتهت عند لفظ السوء بأن كانت ((لايحب الله الجهر بالسوء )) لشملت أيضاً جريمة الفعل الفاضح العلنى، وهي منصوص عليها في آية أخرى من سورة النور ((ان الذين يحبون أن تشيع الفاحشة في الذين آمنوا لهم عذاب أليم في الدنيا والاخرة)) وكذلك جريمة التحريض على الفسق والفجور، فقد تكفلت بها آية أخرى ((لا تكرهوا فتياتكم على البغاء ان أردن تحصنا لتبتغوا عرض الحياة الدنيا)) .
ولم تهمل الآية الاولى الاستفزاز كعذر لمن يرتكب جريمة القذف والسب إذا ما ابتدره غيره بالسب فاهتاج، فرد عليه سبا بسب، حيث تقول ((لا يحب الله الجهر بالسوء من القول الا من ظلم، وهذا الاستثناء يبيح لمن ظلم أن يجهر بالسوء، غير باغ ولا عاد. ولفظ الظلم هنا مطلق لم يقيد بأنه من القول فيشمل عذر الاستفزاز، الاعتداء عليه بالقول كالسب، أو بالفعل كالضرب، أو على المال بالسرقة، وكل ذلك إذا ما وقع على الإنسان، فردّه بالسب أو القذف فهو معذور.
ويجمل بنا أن نشير إلى أن الآية التالية استدركت ما قد ينشأ من تطرف في فهم عذر الاستفزاز، فنصّت على أن العفو عن السوء خير من رده بسوء مثله، حيث قالت: ((ان تبدوا خيراً أو تخفوه أو تعفوا عن سوء، فإن الله كان عفواً قديراً)) كما يجمل بنا أن نشير إلى أن المعنى في هذه الايات على نحو ما أوردته واضح بين سهلالمال لكل من تهيأ ذهنه لدراسة القوانين المقارنة، أما غيرهم فقد يغيب عنهم هذا المعنى، ولذا نجد بعض مفسرى القرآن يذهبون في تفسير عبارة الجهر بالسوء من القول إلى أنها الدعاء على الاعداء بالانتقام، وانزال غضب الله عليهم.