/ صفحة 381/
وأمرٌ آخر هو أن صور التصرفات التي تقع بين الناس، والقضا يا التي تحدث فيهم، لا تنتهى ولا تقف عند حد، فكلما جاء جيل من الناس جاءت معه أحدائه وتصرفاته وألوان نشاطه، فإذا كان من قصد الشريعة أن تنص على كل حكم من لدن جاء محمد صلى الله عليه وآله وسلم إلى أن تقوم الساعة، لما وسع الناس أن يحفظوها، ولا سيما وقد أنزلت على قوم أميين في جزيرة صغيرة محدودة القدرة، وفي زمان أقرب إلى البدائية الاولى، لم يكن العلم فيه قد تقدم كعهدنا به اليوم، فلم يبق الا أن تضمّن الأدلة والمصادر المحدودة للشريعة ما يمكّن العقول من الاستنباط منها كلما دعا إلى ذلك داع، ولذلك وجدت المبادىء العامة، والاصول التي يرجع إليها، وكان منها ما هو قطعى دائم، ككون الشريعة يسراً لا عسراً، وكون المعاملات مبنية على المصالح، وكون العرف محكماً فيما لا نص فيه، ووجوب حفظ المال والنفس والعرض والعقل والدين، وغير ذلك من الكليات التي ترجع إليها الفروع والاحكام.
هذا هو الوضع الحكيم الرحيم الذي جاءت عليه الشريعة الإسلامية، ولم يكن من الحكمة ولا من الرحمة أن تجىء على وضع سواه، بل ان ذلك غير ممكن في نفسه، فلا نتصور أن يكون، ولذلك أبي مالك أن يقبل ما عرضه عليه صاحب السلطان، لأنه يعلم أن كتابه الذي ألفه وجمعه ليس هو كل شيء في هذه الشريعة، وليس هو الكلمة الفاصلة في كل أمر من أمورها، أو مسألة من مسائلها، فلغيره نظر كنظره، وبحث كبحثه، وجمع كجمعه، وقد يكون عند غيره من العلم ما ليس عنده، ولعله لو اطلع عليه لاخذ به، ورجع عما كان قد اختاره، وقد يحمل علمه إلى قوم في بلد من بلاد المسلمين سبق إليهم من قبله علمٌ عن غيره أخذوا به، وعرفوا أنه الحق، فكيف يحملون على غير ما يعلمون، كل هذا دعا مالكاً رضي الله عنه إلى أن يقول للمنصور، وهو يعلل اباءه قبول ما عرضه عليه: ((ان الناس قد سبقت لهم أقاويل، وسمعوا أحاديث، ورووا روايات، وأخذ كل