/ صفحة 380/
هذا، على وجه الاجمال، هو ما دعا إلى اختلاف العلماء، وهذا هو ما قضت به الحكمة الالهية، ولو شاء الله لجاءت أحكام الشريعة ومسائلها جميعاً على نمط واحد، ولكن الله جل جلاله علم أن أمر الناس لا يصلح على ذلك، فلا يصلح في أمور العقائد وأصول الدين التي يدخل بهاالمرء في ربقة الايمان، ويخرج من هذه الربقة حين يخرج عنها - لا يصلح في هذه أن يترك الناس لعقولهم وأفهامهم وظنونهم، فلذلك بينها بياناً واضحاً، وجعلها من بين أمور الدين وأحكامه، حرماً مقدساً، لا يجوز أن تختلف فيها الانظار، ولا أن تكون مجالا لتعدد الاراء.
وهدفا لجدال المتجادلين، ذلك بأنها حقائق أخبرنا الله تعالى بها، وأوجب علينا أن نعتقدها، ليس من شأنها أن تتغير بتغير الزمان، أو تختلف باختلاف المصالح، أو تتأثر باجتهاد المجتهدين، وقد ألحق بهذه الاصول ما شابهها في عدم التأثر بالازمان أو الافهام من حقائق العبادات وصورها - في الجملة - وأصول المعاملات وأنصبة الوارثين، ونحو ذلك، فكان هذا كله رحمة من الله وحكمة، لأنه وقى الناس شر التفرق في الاسس والاصول، ورسم لهم دائرة محدودة واضحة المعالم، يعرف من دخلها ومن خرج عنها، وسماً بالحقائق الواقعة عن أن تكون محل خلاف أو تنازع، وألحق بها ماهو في حكمها من رسوم العبادة التي لايرجع فيها الا إلى ما يريده المعبود، ومن دعائم المعاملة التي يجب في كل زمان ومكان أن تكون مرتكزة على أساس سليم من العدل والخلق الكريم.
أما الفروع التي لا يضر الاختلاف فيها، سواء أكانت في الشئون العملية أم في المسائل النظرية، فلم يكن يصلح أمر الناس على توحيدها، والالزام بصورة معينة منها، ذلك بأن الله خلق العقول وجعل لها مجالا هو النظر والتفكير والموازنة والترجيح والاستقراء والتتبع، فإذا كانت الفروع كالاصول يقينية لم يبق للعقول مجال، ولذلك جاء أكثر أحكام الفقه ظنية، وكثر فيها الاختلاف والترجيح، وأصبحنا نرى في كثير من المسائل الخلافية آراء الفقهاء التي تمثل جميع الصور المحتملة عقلا.