/ صفحة 379/
من تبين له وجه الخطأ فيها، فقد جاء في بعض ما روى من هذا الشأن، أن المنصور حين سمع مقالة مالك أكبره وشكره ودعا له بالتوفيق.
ان مالكاً لم تستهوه هذة الفكرة، وان كان فيها كل التأييد لمذهبه، ولم ينتهز الفرصة لقبول هذا الاقتراح ممن يملك تنفيذه وحمل الناس عليه بما له من قوة السلطان والحكم، فلقد كان أجل من أن يخدعه هذا الاغراء عن الحق، وأجل من أن يتعصب لنفسه أو لمذهبه في هذه القضية الاساسية، وأجل من أن يكتم السلطان ما يجب عليه من النصح له وللمسلمين، وان فوت عليه هذا النصح ما قد يحرص عليه كثير من الناس.
ان مالكاً قد أرجع المسألة إلى أصلها، ولم ينظر إلى أواخر الأمر في هذا الخلاف بين علماء الشريعة، وإنّما نظر إلى أوائله، فهذا الخلاف في أصله ليس صادراً عن الهوى والتعصب، ولكنه صادر عن أصول الشريعة وأدلتها التي يجب على المسلمين أن يعولوا عليها في معرفة دينهم، والتعبد بما شرعه الله لهم، فالقرآن الكريم الذي هو المصدر الأول والاعظم للمسلمين، قد نزل بأسلوب كان من رحمة الله وفضله على خلقه أنه جاء قاطعاً في أصول العقائد وما لا يتغير بتغير الازمان والاحوال، محتملا في كثير مما وراء ذلك من الأُمور والاحكام، فكان ذلك من أول أسباب الخلاف تبعاً لاختلاف الافهام، وقواعد النظر، وتقدير العلل والمصالح، والسنة المطهرة لم تكن قد دونت، وإنّما اعتمد الناس على روايات تلقوها عمن حفظها ووعاها، وكثير من هذه الروايات عن فعل فعله الرسول، أو قول قاله، وربما حف بهذا الفعل أو بهذا القول قرائن وظروف تساعد على فهمه، وربما خلا من ذلك، وقد تأتى الرواية من طريق بلفظ غير ما جاءت به من طريق آخر، وقد تبلغ الرواية هذا العالم، أو هذاالبلد، ولا تبلغ غيرهما، إلى غير ذلك مما كان ذا أثر ظاهر في الخلاف، وقد اختلفت كذلك القواعد التي استنبطها العلماء لفهم الكتاب والسنة، والأدلة التي رأى بعضهم أنها تفيد حكم الله ورأى غيره أن كتاب الله وسنة رسوله مغنيان عنها.