/ صفحة 358/
عن خصوص امتثال الاوامر واجتناب النواهى حتى تكون عملا جارحياً، وإنّما هي معنى فى القلب يرجع فى جملته إلى تقدير العظمة الالهية، وامتلاء النفس بها امتلاءاً يدفع المؤمن إلى المسارعة، وشدة الحرص والاحسان فى تحقيق أوامر الله وتشريعاته، ويدفع به فى الوقت نفسه إلى انعام النظر وقوة التفكير فى ملكوت السموات والأرض لمعرفة أسرار الله فى كونه، وسننه فى خلقه، ثم الاتجاه إلى هذه الاسرار، والعمل على اظهار رحمة الله فيها بعبادة، والوقوف على السنن التى ربط بها بين الاسباب والمسببات، بين السعادة وأسبابها، والشقاء وأسبابه بين العلم وأسبابه، والغنى وأسبابه، والعزة وأسبابها... وهكذا إلى آخر ما تمليه على العاقل المفكر هذه السنن الثابتة التى لا تتغير ولا تتبدل، والتى لا سعادة للانسان الا بتقديرها والعمل بمقتضاها. اذن ليست التقوى إمتثال الاوامر، واجتناب النواهى، إنّما هي ذلك المعنى القلبى الذي تفنى به الارادات الإنسانية فى ملكوت العظمة الاليهة، وهى الباعث على امتثال الاوامر، واجتناب النواهى، وهى المحققة للاحسان فى طاعة الله ورسوله، فهى المبدأ وهى المنتهى، وهى الاولى وهى الآخرة.
ولعلنا - لو تتبعنا مواقع التقوى فى القرآن الكريم - نقف فى معناها على أسرار لا تفى الاقلام بتدوينها، فلندع هذا الباب، وقد ثقبنا منه نافذة صغيرة ينفذ منها شعاع على القلب المستعد للتقوى فيدرك معناها، ويستشعر لذتها، ويقف ثملا بعظمة الله كلما سمع قوله تعالى ((ان تتقوا الله يجعل لكم فرقاناً)) ولنرجع إلى النداء.
((يأيها الذين آمنوا اتقوا الله وابتغوا إليه الوسيلة)) . وحسب القارىء منا فى الكلام على التقوى ما أسلفناه وما أشرنا إليه.
الوسيلة والمراد منها فى هذه الآية:
أما الوسيلة، فقد قال الراغب: الوسيلة التوصل إلى الشيء برغبة، وهى أخص من الوصيلة لتضمهنا معنى الرغبة. قال تعالى ((و ابتغوا إليه الوسيلة)) وحقيقة الوسيلة إلى الله تعالى، مراعاة سبيله بالعلم والعبادة وتحرى مكارم الشريعة، وهى كالقربة... انتهى)) .