/ صفحة 314/
ولم يقتصر أمر الانقسام على الخلافة وحدها; بل ان قبضة بغداد، حين ضعفت عن أطراف هذه المملكة المترامية، بدأ أمراؤها يستقلون بأمرها، ويستبدون بحكمها(1)
وسواء أكانت العوامل الاساسية لهذا التفكك، راجعة إلى ضعف السلطة المركزية فى بغداد; أو إلى ظهور ((الحركات القومية)) فى هذه الاقطار; أو إلى صعوبة الاتصال بين بغداد وأطراف المملكة، سواء أكان أحد هذه الاسباب وحده، أو هي كلها مجتمعة، أدت إلى ذلك التفكك، فمما لا ريب فيه أن تيار التفكير الإسلامي لم يجمد، بل سار مسرعاً نحو الكمال ; حتى ليستطيع الباحث أن يقول - دون مغالاة - ان هذه التفكك السياسي كان بشير ازدهار فكرى وتسابق حضارى، قلما يشهد المرء له نظيراً فى تاريخ الحضارات.
على أنه قد بقى لخليفة بغداد - ورقعة خلافته أوسع الرقع- سلطان روحى، يعترف به الولاة فى أقصى أطراف المملكة، وان أضحوا أكثر قوة من الخليفة، وأوسع ملكاً منه. فهم يلتقون منه عهود ولايتهم، وخلعه عليهم، ويدعى له فى المساجد(2)
وتعدد الخلفاء، واستقلال الامراء بما تحت أيديهم من الملك، لم يكن معناه وضع حواجز أقليمية بين أجزاء هذه المملكة، بحيث تحول هذه الاجزاء بين المسلمين فى المشرق وبين اخوانهم فى المغرب; ولكن كان للمسلم حق المواطن فى كل جزء من العالم الإسلامي(3) تكرم وفادته، ويتلقى العلم عن الشيوخ فى بلاد ما وراءالنهر، وخراسان، فارس، والعراق; كما يتلقاه فى مصر، والشام، والمغرب، والاندلس، وكذلك الشأن فى التجارة. بل ان الامراء كانوا يتسابقون إلى انزال العلماء فى رحابهم، واكرام منزلههم، ويستطيع قارىء كتاب مثل: ((معجم البلدان)) لياقوت، أو كتاب ((الانساب)) للسمعانى، أو أي كتاب آخر من كتب الرحلات، أن يجد أدلة ذلك واضحة.

ــــــــــ
(1) الحضارة الإسلامية: ج 1 ص 1.
(2) المصدر السابق: ج 1 ص 2.
(3) المصدر السابق: ج 1 ص 3.