/ صفحة 56 /
لقد كان كثيرون غير الغزالي رأوا أن المخرج الوحيد من الشكوك التي تأخذ عليهم عقولهم، لما يرونه من اختلاف أصحاب المذاهب الفكرية في العقائد الدينية وتدليل كل على صحة مذهبه ومتعتقده، هو أن يجعلوا المعول في الوصول إلى الحق في هذه المشاكل على ما يقذفه الله في القلب من نور من مصدر فوق العقل، ولكن حجة الإسلام الغزالي كان هو القوى في شكه الذي أعنته وأعياه، وكان الصادق في النتهاج السبيل الذي رآه موصلا للحقيقة، وهو سبيل التصوف. ومن ثم "صار التصوف عند أهل السنة، منذ أيام الغزالي، دعامة يقوم عليها صرح العلم وتاجاً على مفرقه" (1)
ولا عجب! فقد جعل الغزالي، حين قسم الناس إلى طبقات ثلاث، الطبقة العليا هي الصفوة التي بلغت من الكمال الإنساني أسمى مرتبة، وهم الذين يصلون إلى حقائق العالم الأعلى من غير النظر العقلي، بل بنور يقذفه الله في قلوبهم، وهم الأنبياء وأرباب الكشف من الصوفية، وقد كان - كما يذكر عن نفسه - واحداً منهم وهؤلاء هم أحباب الله الذين يتلفون عن العلم اللدنىّ، العلم الذي يتاح للعلماء الذين يعتمدون على العقل ونظره. ولا عجب أيضاً، وهذه الحقائق الإلهية، كما يقول في كتابه "تهافت الفلاسفة" في جملة مواضع منه: لا تنال بنظر العقل، ولا تتسع لها القوى البشرية، فلا يطلع عليها إلا الأنبياء بوحى أو إلهام منه تعالى.
ـــــــــــــــــــــ
1- تاريخ الفلسفة في الإسلام للأستاذ ديبور، وتعريف الأستاذ أبو ريده ص 198.