/ صفحة 55 /
"التهافت" في معرض لوم الغزالي والنعي عليه: أن أبا حامد يكفِّ الفلاسفة بآراء ثم ينتحلها، وإذا كان المستشرق المعروف الأستاذ رتير RITTER اعتقد من قراءه كتاب مقاصد الفلاسفة للغزالي أنه كتبه في الفترة التي كان فيها من أشياع أرسطو وفلسفته، وإذا كان، أخيراً، قد قيل بأن حجة الإسلام قد دخل في الفلسفة، ثم لم يستطع أن يخرج منها، وذلك حين أخذ نفسه بدراستها والوقوف تماما على دقائقها ليرد عليها، ويبين تهافت الذاهبين إليها.
إذا كان هذا كله قد قيل، فإننا مع ذلك لا نرى من الحق أن يقال إن حجة الإسلام كان فيلسوفا بالمعنى الحقيقي للكلمة، وإن كان قد خاض في الفلسفة وعاناها وفهمها تماما، بل وإن كان قد عرف منها مالم يعرفه بعض من يذكرهم التاريخ بأنهم فلاسفة. لقد كان الغزالي طلعة كما يذكر عن نفسه في كتابه "المنفذ من الضلال" الذي يعتبر ترجمة صادقة ممتعة له، يلتمس الحقيقة بكل الوسائل ومن جميع اليابيع التي كانت للثقافة في عصره، لقد شك في معارفه، وفي نفسه، وفي قدرة العقل على الوصول إلى الحق، وقد التمس هدا "الحق" في علم الكلام، وأهله يدّعو أنهم أهل النظر ثم الدى الباطنية، وهم المخصوصون، فيما يرون، بالاقتباس من الإمام المعصوم; ثم التمسه، بعد هذا وذاك لدى الفلاسفة أهل المنطق والبرهان كما يقولون وأخيراً، سعى إليه لدى الصوفية، وهم كما يصفون أنفسهم خواص الحضرة وأهل المشاهدة والكشف. بيد أنه، بعد أن أجهد نفسه في هذه السبل المختلفة المتعددة، لم يجد شفاءً لدائه ولا ريّا لظمئه إلا عند الصوفية، إنه كان يعتقد كان عن علم "أن جميع حركاتهم وسكناتهم، في ظاهرهم وباطنهم، مقتبسة من نور مشكاة النبوة، وليس وراء نور النبوة على وجه الأرض نور يستضاء به" (1) ومن أول الطريقة - كما يقول أيضاً ص 132، 133 - تبتدىء المكاشفات، حتى إنهم في يقظتهم يشاهدون الملائكة، ويسمعون منهم أصواتاً ويقتبسون فوائد، ثم يترقى الحال من مشاهدة الصور والأمثال إلى درجات يضيق عنها نطاق النطق... وعلى الجملة، إلى قرب يكاد يتخيل منه طائفة الحلول، وطائفة الاتحاد، وطائفة الوصول".
ـــــــــــــــــــــ
1- المنقذ من الضلال ص 130، طبقة دمشق.