/ صفحة 54 /
على أنه لم يقنع بهذه المنزلة المرموقة التي وصل إليها، لأن همه لم يكن الشهرة وبعد الصيت، ولا الفوق على الأقران، بل كان الوصول إلى العلم الحق اليقين الذي لا يلابسه ريب، ولهذا تراه يعرض عن المنصب وأبهته والدنيا وزينتها، ويترك بغداد إلى البلاد الإسلامية يطوف فيها، ويقبل على العزلة متذوقا لها، وكل هذا رجاء الوصول إلى الحق الذي أفنى حياته في طلبه، ولعله نعم عيناً بالوصول إلى طلبته في التصوف، إذ يحدثنا في المنقذ من الضلال: "أن الصوفية هم السالكون لطريق الله خاصة، وأن سيرتهم أحسن السير، وطريقهم أقرب الطرق" أي إلى الله تعالى، وما كان ينشد من حقائق عز على عقله الوصول إليها. هذا هو أبو حامد الغزالي الذي يختلف الناس في أمره; فمنهم من يراه واعظا متصوفا، ومنهم من يراه مفكراً عقلياً وفيلسوفا، ومنهم من يراه هذا كله، بل وحجة الإسلام الذي جدّد الله به دينه على رأس المائة الخامسة، هكذا يختلف الباحثون في وصف الغزالي، لنظر كل إليه من زاوية خاصة، فما هو الحق في ذلك؟ وإن كان الجميع مطبقين على جلالته في العلم، وعلى أنه من أعلام الإسلام حقا. إذا كان ابن طفيل الفيلسوف الأندلسي يذكر في رسالته "حى ابن يقظان" وهو بمعرض نقد الغزالي في خصومته للفلسفة والفلاسفة: أن الغزالي يكفَّر الفلاسفة بأشياء ثم يعتقدها ويصرح في بعض كتاباته بأنه يذهب إليها، ويعتذر عن ذلك بأن من الآراء ما يشارك فيها المرء الجمهور فيما هم عليه، ومنها ما يكون له بينه وبين نفسه لا يطلع عليه إلا من هو شريكه في اعتقاده، وإذا كان ابن رشد فيلسوف الأندلس الأشهر يذكر في كتابه: