/ صفحة 414/
روى في الصحيحين عن أبي واقد اللبثي أن رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم)، بينما هو جالس في المسجد والناس معه، إذ أقبل نفر ثلاثة، فأقبل اثنان إلى رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم) وذهب واحد، فأما أحدهما فرأي فرجة في الحلقة فجلس، وأما الآخر فجلس خلفهم، وأما الثالث فأدبر ذاهبا، فلما فرغ رسول الله ـ أي مما كان مشتغلا به من تعليم العلم ـ قال ألا أخبركم عن الثلاثة، أما أحدهم فأوى إلى الله فآواه الله، وأما الآخر فاستحيا وترك المزاحمة، فاستحيا الله منه، (أي جازاه بمثل فعله بأن رحمه ولم يعاقبه) وأما الثالث، فأعرض، فأعرض الله عنه (أي جازاه بأن غضب عليه).
على أن المسجد لم يكن وقفاً على الثقافة الدينية، وقصراً على التعاليم الإسلامية بل كان ميدانا للثقافة الأدبية.
انشد كعب بن زهير رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم) قصيدته (بانت سعاد) في مسجده بحضرته وحضرة أصحابه، وتوسل بها، فوصل إلى العفو عن عقابه، وحقن دمه بعد الإهدار، وأجازه (صلى الله عليه وآله وسلم) بمائة من الإبل، وخلع عليه بردته
وكان حسان بن ثابت ينشد رسول الله الشعر في المسجد فيسمعه منه، ويثني عليه، فإن الأشعار إذا كانت مما تشتمل على الثناء على الله عزوجل، أو على رسوله (صلى الله عليه وآله وسلم) أو الذب عنهما كما كان شعر حسان، أو كانت تتضمن الحض على الخير والوعظ والزهد في الدنيا والتقلل منها، فانشادها في المساجد حسن.
روى البخاري: إن عمر رضي الله عنه مر في المسجد، وحسان ينشد، فزجره عمر، فقال حسان: كنت أنشد فيه، وفيه من هو خير منك، ثم التفت إلى أبي هريرة، فقال: أنشدك الله، هل سمعت النبي (صلى الله عليه وآله وسلم) يقول يا حسان، أجب عن رسول الله، اللهم أيده بروح القدس؟ قال أبو هريرة، نعم.
بقي أن نتكلم على أن المسجد كان ميداناً للتدريب العسكري والتمرين الحربي، وكان مركزاً للقضاء بين الناس، وموطناً للتأديب وتنفيذ العقوبات، بل كان يستخدم مستشفى للمرضى وغيرهم، وملجأ للمعوزين، ومأوى للبائسين، كل هذا سنفصله في المقال الآتي إن شاء الله.