/ صفحة 357/
ولا ريب أن هذا القهر الذي حلق بالمشركين كان أثراً للقوة التي صارت إليهم في ذلك الوقت وتقرر الآية الثانية (اليوم أكملت لكم دينكم الخ) بشارة عظيمة هي في الواقع بمنزلة البيان أو التعليل لما استفيد من الآية الأولى من وقوع المشركين في اليأس وحصول المسلمين على النصر والقوة. ذلك إن إكمال الدين على الإطلاق يتناول إكماله بالبيان والتشريع وإكماله بالقوة والتركيز، وإن أكبر النعم التي يمتن بها العظيم ويضيفها إلى نفسه تفخيما لها لهي النعمة التي بها يستتب النظام وتوضع القوانين وتبين الحقوق والواجبات وتقضي على نوازع الشر ومنافع السوء وتقهر العدو، وتدك صرح باطنه، وتجعله في يأس من عودة القوة إليه؛ نعم إنها لأكبر النعم. ويكشف عن هذا ما روى أن رجلا من اليهود جاء إلى عمر رضي الله عنه فقال: إن في كتابكم آية تقرأونها لو علينا أنزلت ـ معشر اليهود ـ لاتخذنا اليوم الذي أنزلت فيه عيداً، قال عمر: وأية آية؟ قال: (اليوم أكملت لكم دينكم وأتممت عليكم نعمتي ورضيت لكم الإسلام دينا) فقال عمر: إني والله لأعلم اليوم الذي أنزلت فيه والساعة التي نزلت فيها، نزلت على رسول الله عشية عرفه في يوم جمعه والحمد لله الذي جعله لنا عيدا. واليوم الثاني يوم الحر.
من هذا كله نأخذ أن سورة المائدة لم تنزل إلا بعد أن قلمت أظفار المشركين وانزوي الشرك في مخابئه المظلمة، وصار المسلمون في قوة ومنعة كانوا بهما أصحاب السلطان والصولة في مكة وفي بيت الله الحرام يحجون آمنين مطمئنين وقد نكست أعلام الشرك وانطوت صفحة الإلحاد والضلال. ولا ريب أن هذه الحالة لم تصل إلى المسلمين إلا بعد أن فتح الله مكة للإسلام، والا بعد أن نزل قوله تعالى: (إنما المشركون نجس فلا يقربوا المسجد الحرام بعد عامهم هذا) وهذا يقرب لنا صحة ما يروي من أنا لنبي قرأ سورة المائدة في حجة الوداع وقال: (يأيها الناس إن سورة المائدة آخر ما نزل فأحلوا حلالها وحرموا حرامها) وقد روى عن السيدة عائشة أنها قالت (إن المائدة من آخر ما أنزل الله، فما وجدتهم فيها من حلال فأحلوه، وما وجدتهم فيها حرام فحرموه) ويتبين من هذا أن سورة المائدة كانت آخر ما نزل أو على الأقل من آخر ما نزل.