/ صفحة 356/
الحكمة في أن الله قص علينا هذه القصة:
بقي أن نتساءل عن الحكمة في أن يقص القرآن علينا هذه القصة، والجواب عن هذا ـ إذا أخذنا برأي الجمهور وأن المائدة نزلت ـ واضح بيِّن وهو أنها آية ونعمة لبني إسرائيل يمتن بها الله على خلفهم الذين كانوا في عهد النبي، وأن عناية الله بإجابة مطالب سلفهم، توحي إليهم بمعرفة ذلك الفضل والإيمان بمن أوحى إليه وظهر على يديه وهو محمد عليه الصلاة والسلام. أما إذا أخذنا برأي القائلين بعدم نزولها فالحكمة في ذكر هذه المحاورة هي تنبيه أمة محمد إلى أنه لا ينبغي أن يحكموا الآيات التي يقترحونها في إيمانهم بمحمد، وأن لهم فيما يظهره الله من البينات وبراهين الحق بلاغا وكفاية (أو لم يكفهم أنا أنزلنا عليك الكتاب يتلي عليهم إن في ذلك لرحمة وذكرى لقوم يؤمنون) وجدير بهم إذا سمعوا مثل هذه المحاورة وما قيدِّ به نزول المائدة على بني إسرائيل: أن يخشوا عاقبة الآيات المقترحة وأن يقدروا النتائج التي تترتب على الكفر بعد إجابتهم إليها، كما خاف الحواريون ذلك وقدروا النتائج فرجعوا عما اقترحوا، فليتخذوا الحواريين أسوة لهم في ذلك إذ طلب الله منهم أن يكونوا أنصار الله كما كان الحواريون أنصار الله.
الظروف التي نزلت فيها هذه السورة ومناسبة موضوعاتها لها:
هذا وفي السورة ما يرشد إلى الوقت الذي نزلت فيه، والى الحالة التي صار إليها المسلمون في ذلك الوقت، فقد جاء فيها بعد أن فصل الله محرمات الطعام قوله تعالى: (اليوم يئس الذين كفروا من دينكم فلا تخشوهم واخشون، اليوم أكملت لكم دينكم وأتممت عليكم نعمتي ورضيت لكم الإسلام دينا) والاية الأولى (اليوم يئس لذين كفروا من دينكم) تقرر أن المشركين الذين كانوا يعملون دائماً على قر المسلمين وإذلالهم وتشتيتهم وتفريق كلمتهم وفتنتهم عن دينهم صاروا من كل ذلك في عجز وضعف واستولي عليهم اليأس في الوصول إلى شئ من أغراضهم، وعليه فيجب على المسلمين وقد عصمهم الله من أعدائهم وبدل بضعفهم قوة وبخوفهم أمنا وبفقرهم غنى: أن يشكروا رب هذه النعمة وألا يكترثوا في تنفيذ أوامره وإقامة دينه وتنفيذ أحكامه بأحد سواه.